المنبرالحر

معركة تحرير الموصل الاستراتيجية والتكتيك (1) / فارس كريم فارس

ان معركة تحرير الموصل تعتبر من ضمن التحديات المصيرية لدولة العراق وبقائها، ان الحكومة بحاجة الى التخطيط والتعبئة الاستراتيجية لقوى الدولة الشاملة سواء في قوة البناء والتكوين لمؤسسات الدولة وهذا ما يحصل بشكل خجول لحد الان، وتجميع القوة البشرية الاجتماعية والسياسية بأعلاء راية الوطنية العراقية ودولة المواطنة بالضد من الطائفية والمحاصصة، وتفعيل القوة الاقتصادية من خلال اصلاح مالي واداري شامل ومحاربة الفساد والفاسدين بالتوازي مع محاربة الارهاب وبنفس القوة او اكثر، لان الفساد في العراق اصبح يمثل تكثيفا لفعل عدة عوامل اهمها، المحاصصة الطائفية والسياسية/ الارهاب/ المليشيات والعصابات المنظمة/ والترهل الحكومي وضعف القضاء، الاستمرار بتنمية القوة التنظيمية للدولة والقوات العسكرية والامنية وإشباعها بالروح الوطنية والمهنية من اجل تحقيق الاهداف الاستراتيجية الشاملة ومنها انهاء الارهاب بكل اشكاله (التكفيري والمليشيات والقوى الخارجة عن القانون والعصابات المنظمة....الخ).
ان معركة تحرير الموصل وتحليلها من الناحية الاستراتيجية والتكتيكة تستوجب الخوض في جميع المجالات الرئيسية: السياسية، العسكرية والامنية، الاقتصادية، الفكرية والثقافية، الإعلامية والنفسية، التربوية والحضارية. الا اننا في هذه المقالة سنتناول بشكل مكثف الجانب السياسي والعسكري، ويمكن تناول الجوانب الاخرى في مناسبات قادمة.
اولا- المجال السياسي: يمكن تأشير ابرز السمات السياسية لمعركة تحرير الموصل على الاصعدة الداخلية والاقليمية والدولية من خلال ما يلي:
أ‌- الاجماع بين مختلف الاطراف والقوى العراقية وبأسناد ومطالبة شعبية وكذلك من مختلف المرجعيات الدينية على ضرورة خوض معركة التحرير والانتصار فيها على قوى الظلام والارهاب.
ب‌- وهذا يعني عمليا تنكيس الرايات، الدينية الطائفية والاثنية والعرقية، ورفع راية الوطنية العراقية.
ت‌- وتبعا لذلك ومن الناحية الفعلية كشفت معركة تحرير الموصل ولحد الوقت الراهن والقوى المقاتلة على وشك اعلان تحرير الجانب الايسر بكامله من تنظيم الدولة- داعش - عن عقم السياسات الطائفية والقومية المتطرفة في تحقيق النجاح والظفر، وضرورة اعلاء الهوية الوطنية على كافة الهويات الفرعية، وانتهاج سياسات وطنية جامعة كفيلة بتحقيق النصر على الارهاب والسير نحو مستقبل افضل للجميع.
ث‌- معركة تحرير الموصل اكدت ضرورة النظر للشعب العراقي وفق مفهوم المواطنة والحقوق المتساوية للأفراد وصيانة كراماتهم بعدما توضح حجم الدمار والظلم والتعسف الذي وقع على سكان الموصل وخاصة على القوميات والديانات الاخرى.
ج‌- نستطيع الاقرار بنجاح الادارة السياسية لمعركة تحرير الموصل في جانبها الايسر لحد الان (25-1-2017)، وتعتبر بدون شك ادارة سياسية سليمة عموما للأسباب التالية:
• اعطاء القوات المسلحة العراقية من جيش وشرطة اتحادية وجهاز وقوات مكافحة الارهاب الدور الرئيسي في التخطيط والتنفيذ وخاصة في مدينة الموصل مما يجنب ويبعد المخاوف من انفلات او عدم السيطرة على سلوك او تعامل القوات المساهمة الاخرى من حشد او بيشمركة مع السكان المدنيين.
• اعطاء القوات المساهمة من بيشمركة وحشد شعبي مهام كبيرة دونها لا يمكن الانتصار في المعركة سواء في مراحلها الاولى او لاحقا حتى الانتصار النهائي وتَفهُمْ قيادات الحشد والبيشمركة لطبيعة واهمية دورهم في المعركة.
• تحديد قوات محلية من شرطة وحشد وطني وعشائري لمسك الارض، وهذا تطمين مهم لسكان الموصل.
• ان التوجيه بالحفاظ على ارواح السكان المدنيين والبنى التحتية والاهتمام بالنازحين والتنفيذ المبدع لهذه التوجيهات الصائبة عززت من ثقة سكان الموصل وتعاونهم مع الدولة، بعد تجربة مريرة مع القوات المسلحة اثناء فترة الحكومة السابقة وفترة حكم ارهابيي الدولة الاسلامية – داعش-.
• ان السلوك العملي للقيادة الميدانية والمقاتلين مع اهالي الموصل، وما اتسم به من شعور وطني عال وحرص كبير على ارواحهم واعراضهم واموالهم والحفاظ على البنى التحتية للمدينة بالرغم من المعارك الطاحنة والمخاطر والتضحيات الجسيمة الذي يتطلبه هذا السلوك، والاصرار على انقاذهم من قوى الظلام والتخلف والتعسف، كل ذلك احيى وعزز من الشعور الوطني العراقي وحب الانتماء للدولة العراقية، ان احتضان طفل او طفلة من قبل قائد او مقاتل في احياء الساحل الايسر للموصل كان يبدو وكان هذا القائد او المقاتل يحتضن العراق ومستقبله. كما ان حمل عجوز او معوق او مساعدة عائلة ونقلهم من خطوط المواجهة الى مكان آمن، جعل من الوطنية والشهامة العراقية الاصيلة تزهو بأرقى صورها.
• لقد تعرت من خلال السلوك الوطني والانساني للمقاتل العراقي الذي جاء من جميع مناطق العراق، الجنوب والوسط والغربية وكردستان، عفونة الفكر الطائفي والتطرف الديني والمذهبي والقومي، بالضبط كما تعرى فكر الارهاب الداعشي ودولته اللا اسلامية.
د- ان رفع راية الوطنية العراقية عنصر حاسم في الانتصار بهذه المعركة وبما ان لجميع الشركاء والاطراف العراقية مصلحة لتحقيق هذا الهدف، يمكننا القول انها فرصة تاريخية قد تكون نادرة لتسطير ملحمة وطنية باتجاه نبذ الطائفية ومغادرة المحاصصة ومحاربة الفساد وتنمية الروح الوطنية لجميع مؤسسات الدولة ومساهمتها الجدية في تعبئة قدراتها لتقديم كل ما يمكن لإنجاح المعركة بجميع جوانبها واعادة اعمار المناطق المحررة وتوفير الخدمات الاساسية لها بأسرع وقت وعودة النازحين والاهتمام بهم قبل ذلك، لضمان الاستقرار الاهلي.
هـ - ان تحقيق الانتصار النهائي في معركة تحرير الموصل يمكن ان يشجع لتحول نوعي في نمط التفكير السياسي العراقي للقوى التي تسعى للتخلص من صبغتها الطائفية والتحرر من قيودها العقائدية المحدودة نحو الافاق الرحبة للوطنية العراقية والديمقراطية والتعددية وتقبل الاخر، هذا من جانب ومن الجانب الاخر قد يؤدي الى تكالب القوى والاطراف المتمسكة بنهج الطائفية والمحاصصة والفساد كي لا تخسر امتيازاتها فتعمل من اجل التقليل من شأن المغزى الكبير للانتصار واسبابه ونتائجه وحرف الانظار واختلاق مشاكل وصعوبات جدية امام التوجه الوطني لتحقيق مصالح ذاتية وحرمان الشعب من الدروس الغنية للانتصار ومن فرحة النصر بذاته.
و- ان بلورة العقيدة العسكرية للقوات المسلحة العراقية على اساس وطني ومهني عالي التطور وبالاعتماد على احدث ما للعلم العسكري من تقدم، يتطلب بالضرورة وحدة العقيدة العسكرية لجميع القوات والصنوف فليس من الصحيح ان تتسم القوات العسكرية التي تقاتل من اجل تحرير الموصل بروح وطنية ومهنية عالية وتقوم قوات مسلحة عراقية في مناطق اخرى بالاعتداء على المواطنين وهدر كراماتهم وحقوقهم سواء بالاعتقال التعسفي (كما حدث في الطارمية) او بالتجاوز على المظاهرات السلمية (كما حدث في ساحة التحرير) او بالتجاوز على الصحفيين كما يحدث مرارا، وهذا يعني انه لازال الصراع مستمر بين القوى المتنفذة بين من يريد ترسيخ العقيدة الوطنية والمهنية للجيش ومن يريد عكس ذلك لتخريب وافشال المغزى الوطني التي افرزته معارك تحرير الموصل لحد الوقت الراهن، مما يتطلب الوقوف بوجه هذه القوى وفضحها امام الجماهير للحد من افعالها وتأثيرها التخريبي.
اما بما يخص مؤشرات الجانب السياسي في التفاعل مع القوى الاقليمية والدولية بما يخص معركة تحرير الموصل يمكن تثبيت ما يلي:
أ‌- نستطيع القول ان الظروف السياسية الجديدة للقوى الاقليمية والدولية بالإضافة الى صواب تعامل الحكومة العراقية معها، عشية التحضير والبدء لمعركة تحرير الموصل ولحد الوقت الراهن، ادت الى النجاح في جمع اطراف وقوى اقليمية ودولية رغم التنافر والاختلاف العقائدي والسياسي، او بالمصالح والنوايا بينها، الا انه جمعها مع المصلحة الوطنية العراقية هدف استراتيجي واحد وواضح، وهو تدمير او التخلص من تنظيم الدولة الاسلامية في العراق والشام –داعش-.
ب‌- وبهذا الصدد جعل القيادة العراقية وكأنما تسير على حبل دقيق يربط بين ضفتين وتحتها هوة سحيقة مجهولة، تحاول فيها الانتقال من ضفة سياسات الحكومة السابقة المتمثلة بالعداء والتناحر وعدم الحياد وتعريض السيادة الوطنية للاختراق من خلال العمل لحساب قوى اقليمية ضد اخرى، الى الضفة الاخرى المتمثلة بسياسة متوازنة منفتحة تبعد الساحة العراقية عن الصراعات الاقليمية وتحل الاشكالات بالحوار وتحرص على السيادة قدر الامكان، وتنظر للمصلحة الوطنية العليا كأولوية عليا، لذلك نرى ان الحكومة الحالية ورئيس مجلس الوزراء حيدر العبادي ومن معهم من قوى التي تريد الاجتياز الى الضفة الاخرى، عليها ان تمسك عمود التوازن من الوسط وعلى طرفي العمود معلقة مهمتين اساسيتين تتمثل بمهمة الإصلاح يمينا ومهمة التغيير يسارا، حيت دونهما لا يمكن السير بخطوات دقيقة وجريئة للوصول للضفة الاخرى بسلام، وهذه مهمة ليست سهلة بالتأكيد.
ت‌- ان انفتاح علاقات العراق وترتيب تفاهمات جديدة مع مختلف القوى الاقليمية بالترافق مع الظروف السياسية الجديدة في المنطقة وحل المعضلات بالحوار سواء مع (السعودية وبلدان الخليج او تركيا ومصر والاردن)، والاستفادة القصوى من النشاط الدبلوماسي للتحشيد من اجل الانتصار في المعركة مع الارهاب.
ث‌- وكل ذلك ينطبق على العلاقات الدولية سواء مع دول التحالف ضد الارهاب او روسيا والصين ويمكن تنشيط ذلك باتجاهات متعددة اخرى. بالتأكيد يجب عدم التقليل من شان التعقيدات والصعوبات الجمة في هذا المجال، ولما تصبوا اليه كل قوة او طرف اقليمي او دولي من اهداف ونوايا مختلفة وما تمارسه من ضغوط لتحقيق ما تطمح اليه، الا ان التأكيد على الحياد والاستقلالية والحفاظ على السيادة الوطنية ووحدانية القوات المسلحة العراقية وتواجدها على الارض وقيامها بمهمة التحرير حصرا مع قبول كل الدعم والمساعدة الاقليمية والدولية (ضمن هذه الشروط) سيسهم كل ذلك بالتأكيد لضمان نصر مؤزر.
ان المدخلات للعوامل (الداخلية والاقليمية والدولية) التي تصل الحكومة بجميع اجزائها (السلطة التنفيذية والتشريعية والقضائية) ومعالجتها من خلال مخرجات (قرارات واجراءات وتشريعات واحكام) وفق رؤية سياسية تنظر للمصلحة الوطنية العليا للشعب والوطن وبدون تهميش لأي طرف، وليس وفق المصلحة العقائدية او المذهبية او الحزبية او الشخصية والمحاصصة السياسية، يمثل الطريق السليم للنجاح، اما تطوير هذه السياسات فيتم من خلال التغذية الاسترجاعية التي بالضرورة تساهم فيها منظمات المجتمع المدني والاحزاب والشخصيات الوطنية والاكاديمية والصحافة والفضائيات والجماهير عموما بمختلف الاشكال والنشاطات....الخ. للاستفادة من ملاحظاتها وكيفية تحقيق مطالبها وتطمين مصالحها وتصحيح عموم السياسات الحكومية بشكل يضمن الاستمرارية والمتابعة لجميع التطورات وعلى مختلف الاصعدة.
ان معركة تحرير الموصل والانتصار بها سوف لن تكون ضربة موجعة توجه لقوى الارهاب والظلام فقط، بل ستكون ضربة موجعة ايضا للقوى الطائفية والفاسدين والفاشلين والانتهازيين والخارجين عن القانون والعصابات المنظمة. ان نجاح معركة تحرير الموصل هو انتصار للوطنية العراقية.
يتبع ....الجزء الثاني _ المجال العسكري.