المنبرالحر

العراق بين سباق اللامعقول في السياسة و السقوط الثقافي/ د. سامان سوراني

من الواضح بأن الثقافة الغربية المعاصرة تمكنت بفضل علاقتها النقدية بذاتها من ممارسة حيويتها و تفوقها من خلال قدرتها الفائقة علی نزع جلدها و تغيير ذاتها باستمرار، فأتاحت لها قابلية توليد الصيغ والنماذج و الأطر و القوالب أو الطرق والمناهج أو الأساليب والأنماط أو الأنظمة والأنساق وحتی القوانين والتشريعات.
أما الحقيقة المرة فهي، أن العراق قد تأخر و للأسف عن الإنخراط في العالم الجديد لفتح آفاق المستقبل الدينامیكي. فلا النخبة السياسية، التي لم تخرج و ليومنا هذا من سجونها العقائدية والقوموية أو الطائفية، تمكنت من بناء مجتمع فاعل و غني بإنتاجه أو قوي بأقتصاده أو ديمقراطي بحكومته أو سلمي بتوجهه أو مزدهر بإنجازاته الحضارية و لا التيارات السياسية التي تدعي بأنها العلمانية استطاعت فصل مجالي الإيمان و العقل أو مجالي السياسة و اللاهوت، لكي يحقق من خلاله المزيد من الحرية. أما فيما يخص المجال العلمي فلا يمكننا أن نصفه إلا بما أشار اليه أحد الفلاسفة في القرن الثاني عشر ويدعى بيتر أبلار Peter Ablard في أسوأ حالاته بقوله " إن العلم من دون ضمير هو موت الروح". وإن البحوث العلمية تكمن أساساً في بعث الأمن والسلم لدى المجتمع، لكن ما النفع من تشكيل دولة فدرالية دون استغلال نبراس العلم والمعرفة في الطريق المرسوم له علمياً وتقنياً وفنياً؟
إن السباق نحو اللامعقول في السياسة بعيداً عن قواعد الشراكة والتوأمة والحماية والرعاية بعقليات بيروقراطية مركزية فوقية غريباً عن قيم التقی والتواضع و الإعتراف يحمي عقلية النخبة المتقوقعة لكي لا يصل الی المجتمع التداولي، حيث كل الناس هم فاعلون و مشاركون في أعمال البناء والإنماء.
الثورة المعلوماتية، التي بزغت في أواخر القرن العشرين المنصرم و الدولة الكوكبية المفترضة التي تفجرت و التجارة الرقمية المتعددة الجنسيات التي شاعت شكلت ظواهر إجتماعية جديدة من قبيل العولمة وصراع الحضارات والاستنساخ والهندسة الوراثية بقت بعيدة عن الفضاء الفكري للمجتمع العراقي، الذي كان و لايزال محاصراً بثقافة الإستهلاك الديني، التي أعطت للعمل الديني مهام ممارسة حكومة إلهية ترجمت أفخاخاً و مآزق، بقدر ما أنتجت الكثير من الإستبداد والفساد والفقر و التخلف والبؤس. ما نشاهده يومياً من كوارث علی شاشات التلفاز ماهي إلا صورة من السياسات البربرية الإنتقامية، التي تثبت لنا غلبة ثقافة الإصطفاء والإقصاء و الإستعداء والشحن و الإنتقام و الإستئصال في هذا البلد، الذي يدعي بأنه مهد للحضارة الإنسانية.
و من أجل إيجاد منهج علمي و عقلاني قادر علی التمحيص والتفسير الدقيق لإختلال المعايير الإجتماعية، التي لا تتجاوب مع العقل و التقليل من الإنحراف الغالب في هذا المجتمع علينا الرجوع الی علوم السوسيولوجية المعاصرة وإستخدام أدواتها بغية فهم الصيرورة الاجتماعية والتحديات المستقبلية وأنماط التداخل التاريخية و هدم إمبراطورية الفوضى المجتمعي.
إن إنتهاج سياسة إعلامية تكيل بمكيالين علی ما يجري علی الساحة العراقية‌ والترويج لمنطق العنف والإرهاب و نصب المتاريس و خلق الأعداء لا يغير الأوضاع و لا يؤدي الی تحسين الأحوال، بل توّلد الحروب الأهلية و العجز والهشاشة. إن إحتكام البعض الی الغرائز و المصلحة القوموية أو الطائفية أو الفردية يؤدي الی إنهيار المصلحة العامة، التي يجد في ظلها كل واحد أمنه و سعادته. فالحياة الاجتماعية بما هي امتداد للحياة الأخلاقية لا تتحقق إلا داخل الدولة كإطار يتحقق فيه التضامن ويسود فيه الأمن و الفضيلة. يقول لنا سبينوزا في الحق الطبيعي، "إن المسؤولية المباشرة للدولة على المستوى الاجتماعي و السياسي، هي ضمان أمن الأفراد و حريتهم" و " الهدف النهائي للحكم ليس السيطرة على الأفراد و قمعهم بالخوف و ليس فرض الطاعة عليهم، و إنما هو بالعكس من ذلك تحرير كل شخص من الخوف حتى يعيش في اطمئنان تام و بعبارة أخرى تأكيد حقه الطبيعي في أن يعيش و يعمل دون أن يلحق غيره ضرر."
وختاماً نوجه كلامنا الی النخبة "السياسية المثقفة" بالقول: "واقعنا الحي و عالمنا المعاش من حيث الحركة والصيرورة أو من حيث الزمن والتراكم أو من حيث البنية والتشابك هو في غاية التعقيد والإلتباس، لذا علينا مواجهته والتعامل معه بفكر مرن و عقل متحرك يفيد من تعدد الإختصاصات و فروع المعرفة و ينفتح علی التجربة الوجودية بعيدا عن الإقصاء والإستبعاد."