المنبرالحر

ماذا يفعل الإنسان العربي ببيئته / د. ناهدة محمد علي

لقد كانت الطبيعة العربية دائماً جميلة ومتنوعة صافية ونقية , الى أن دخل التلوث الصناعي والزراعي الى البعض من الدول العربية ودخلت ( الحروب المشعة ) الى البعض الآخر وشمل هذا التلوث الهواء والماء والتربة , وهذا يعني كل ما يحيط بالإنسان العربي , وكانت النتيجة تأثيرات بالغة الخطورة على الفرد العربي نفسه , تأثيرات جسدية وعقلية ونفسية , وكانت النتيجة ايضاً أن تكثر الأمراض والسرطانات , والأمراض العقلية والعصبية والنفسية , والمعضلة الأكبر إن الفرد العربي كما يلوث بيئته ويرفض علاجها يرفض ايضاً الصلة بين هذا التلوث وبين أمراضه الجسدية والعصبية , وتخيلو معي بلداً يكثر فيه المرضى ممن لا يتلقون العلاج ولا يتقبلوه وخاصة مرضى الأعصاب وهذا ايضاً مساوي لعدم إهتمام المجتمعات العربية لتوفير العلاج لهؤلاء وتعتبره نوع من الرفاهية .
إذا بدأنا بالعراق فإن المؤسسات التي تهتم بأوضاع البيئة تعتبره آخر دولة تهتم بالبيئة , وفي تقرير نُشر في 2010 أعده باحثون في جامعة ( ييل وكولومبيا ) في الولايات المتحدة بالتعاون مع المنتدى الإقتصادي العالمي وبالإستناد الى بيانات الأمم المتحدة والبنك الدولي , ويوضح هذا التقرير نقاط الضعف في موضوع الإهتمام بالبيئة , ورتب في تقريره مؤشرات لـ ( 132 ) دولة في مشكلة تلوث الهواء والماء والصرف الصحي والتنوع البيولوجي وإدارة الغابات وتغير المناخ , وكان العراق كما هو متوقع هو آخر دولة تهتم بالبيئة .
إن المعالجة الزراعية بالأسمدة الكيمياوية وتعقيم المزارع والتربة بمادة الـ ( دي دي تي ) والإنتشار الصناعي وهو متركز على الأكثر في مصر قد أدى الى إحداث ضغط هائل على الموارد الطبيعية وأدى ايضاً الى خلل في التوازن البيئي , فإختلت نسب ثاني أُوكسيد الكاربون وأول أُكسيد الكاربون ولم تعد النفايات الإنسانية والصناعية قليلة أو غير محسوسة بل أصبحت تلوث البيئة فأخذت الشوائب وأبخرة الفلزات الثقيلة كالرصاص تلوث الهواء حيث تبقى هذه الأبخرة عالقة في الجو لأيام عديدة وهو ما يسمى بـ ( الضباب الدخاني ) , وهو ما لوحظ ولا حظته شخصياً في كثير من الدول العربية وأولها العراق ومصر وتونس وليبيا وسوريا , ولا تظهر الآثار الخطيرة مباشرة لكنها تظهر على المدى البعيد وكلما زادت كميتها قد تظهر بعد فترة قليلة وتؤدي الى أعراض عقلية وعصبية منها ( الخبل والعته وإضطراب الإنتباه والذاكرة والهلاوس والأوهام ) وهو ما يتشابه مع أعراض الشيزوفرينيا وقد يؤدي الى التخلف العقلي والكآبة ومرض التوحد , وكما يؤثر ايضاً على الجهاز التنفسي . إن نسبة الأُوكسجين الطبيعية في الجو وقلة نسبة ثاني أُوكسيد الكاربون والتي تكون عادة في المراعي والغابات تُظهر تأثيراً عكسياً على الوضع الصحي والعصبي , فالهدوء العصبي وشدة التركيز وسرعة الإنتباه والإرتخاء النفسي المعاكس للكآبه . يساهم اللون الأخضر في منح الراحة للعين والعقل الإنساني بعكس اللون الرمادي والتي تتميز به الكثير من أشجار الدول العربية نتيجة لمعالجتها بالأسمدة الكيمياوية ومعقمات التربة .
إن التلوث الهوائي الذي يضر الثروة البشرية والزراعية والحيوانية والذي يؤدي الى ( المطر الحامضي ) والذي يضر كثيراً بدورة الطبيعة ويوقف مركباتها كما يضر بالسلسلة الغذائية ويجعلها مضرة وقليلة الفائدة . كما أن إستخدام المبيدات الحشرية في المدينة والريف يجعلها تنتقل الى التربة والى النبات والحيوان والإنسان فتؤدي الى الإضطرابات في وظائف الجسم ومنها المعدة والكبد وتؤدي ايضاً الى الخمول والتبلد والى تدمير العناصر الوراثية في النبات والحيوان والإنسان , ولذا تتغير كميائية النباتات المتعادلة في عناصرها وتتغير كميائية اللحوم الحيوانية والجسم البشري وبضمنه العقل والذي تتشوه وظائفه .
أما التلوث بالأشعة فيحدث خطراً مهولاً تزداد خطورته بقرب المسافة وإزدياد الفترة للتعرض ويؤدي الى تخريب في الصحة الجسدية والنفسية ويؤثر مباشرة على عمل الغدد ومنها الغدة الدرقية وتظهر على الفرد المصاب علامات الوهن وضعف الإنتباه وعدم التركيز وكثرة النوم بسبب قلة هورمون ( التيروكسين ) ويتسبب ايضاً بالعصبية والتهيج السريع وإضطرابات النوم والإستقلاب الغذائي إذا زاد هذا الهورمون , كما يؤثر التلوث الإشعاعي على التنفس وعلى الجلد .
وهناك نوع آخر من أنواع التلوث وهو ( التلوث الضجيجي ) والذي يؤثر مباشرة على الجهاز العصبي , وهو منتشر في المدن الكبرى العربية والغير منتظمة مثل بغداد والقاهرة ودمشق , ويؤدي هذا التلوث الى تغيير في المشاعر وتعطيل بالتفكير والإدراك والحواس , ويؤدي ايضاً الى الإرهاق وإضطرابات النوم والى التوتر فتزداد بسبب هذا نسبة الكولسترول ويضطرب عمل الغدد الصماء والتي تؤدي بدورها الى سرعة الهياج العصبي وإضطراب الإدراك وتفسير الظواهر والمعلومات وإضطراب الحواس كالبصر بتغيير الألوان وعدم القدرة على مواجهة الضوء ويؤثر على السمع بعدم القدرة على سماع كل الأصوات وحتى الواطئة . وقد إستخدمت السلطات العدوانية كالنازيون هذا النوع من التلويث على مساجينهم لإجبارهم على الإدلاء بالمعلومات اللازمة , وقد تُستخدم أنواع من الأصوات الرتيبة والمستمرة لفترات طويلة ليلاً ونهاراً كأصوات قطرات الماء ( حنفية الماء ) أو إستخدام أصوات عالية جداً وعشوائية والتي تسبب الإنهيار النفسي والعصبي للفرد .
إن التدمير المقصود وغير المقصود للكيمياء المنظمة في جسم الإنسان والحيوان والنبات يخرب العلاقة الحميمة ما بين الإنسان وبيئته وكما هو معروف إن الإنسان يستمد قوته وصحته من خلال بيئته , وإن التركيب الرائع لكل نسب محتويات الطبيعة لا يقدم إلا الصحة والجمال للإنسان إلا إذا قام هو بتلويثها بسوء تخطيطه .
إن تلويث الهواء بغازات مثل ( ثاني أُوكسيد الكبريت وأول أُوكسيد الكاربون والكلور ) يؤدي الى مخاطر بيئية كثيرة لكنه لا يقارن بمدى خطورة التلوث الإشعاعي والذي له أمثلة كثيرة على مدى التأريخ , ففي روسيا مثلاً في مفاعل ( تشرنوبل ) وفي اليابان كما في ( ناكازاكي وهيروشيما ) والذي نشر في الجو عنصر ( الإسترنشيوم ) والذي ينتج عن الإنفجارات النووية والذي قد يتساقط على الإشجار والغابات والحيوانات وعلى الإنسان ويدمر هذا طبعاً الجهاز العصبي ويغير كيمياء الجسم والعقل البشري . وكما يفعل هذا التلوث الألكتروني الذي ينبعث من الأجهزة الألكترونية المتواجدة في البيوت للإستخدامات المنزلية والتي قد تؤدي الى حالات عدم الإتزان والصداع المزمن ويتصل هذا بعدد ساعات الإستخدام .
إن هناك نوع آخر من التلوث والذي إنتشر مؤخراً في الأنهار العربية كما في نهر النيل ودجلة والفرات وهو ( التلوث المائي ) حيث تُرمى النفايات البشرية ومياه المجاري والنفايات الصناعية في هذه الأنهار , بسبب الإنتشار الصناعي الغير منظم في مدن عربية مثل القاهرة حيث تنتشر في الهواء أكاسيد النايتروجين وأكاسيد الكبريت والتي تؤدي الى تلوث مياه الأمطار وبالتالي الأنهار فتمتصها التربة وتنتقل الى الحيوان والنبات والإنسان ايضاً . كما تتلوث المياه بالنفايات الصناعية والتي تفرز الأملاح السامة كأملاح الزئبق والزرنيخ وأملاح المعادن الثقيلة كالرصاص والكادميوم , كما أن هناك سبب آخر لتلوث الماء وخاصة في الدول المنتجة للبترول ألا وهو البترول المتسرب من ناقلات البترول والتي تغرق في البحار والمحيطات كما يحدث في منطقة الخليج والعراق , حيث تحدث حالات سرقة البترول في خزانات غير مهيئة ولا محصنة للحفاظ على البترول وتكون النتيجة تلوث الثروة السمكية والتسمم البطيء .
إن ما تفعله مركبات البترول أو مركبات الزئبق السامة في جسم الإنسان هو تخريب هائل للعمليات الجسدية والعقلية حتى لو كان بكميات قليلة فهو يتلف خلايا المخ وعضلات الجسم ويخرب الحواس خاصة حاسة البصر .
لو ناقشنا النموذج الأمثل للتلوث البيئي بأنواعه لوجدناه متمثلاً في العراق حيث تتناقص أعمار الفرد العراقي وخاصة الرجال , وقد نشرت وزارة البيئة العراقية تقرير في أواخر حزيران 2012 عن إستمرار تردي المستوى العمري للإنسان العراقي حيث وصل الى متوسط عمر 60 , وكان أكثر التلوثات خطورة على الفرد العراقي هو التلوث الإشعاعي والذي أُستخدم منذ حرب الخليج وفي حرب 2003 . وبعد إجراء المسوحات العلمية والميدانية أُكتُشف بأن التلوث الإشعاعي في بغداد ومدن الجنوب قد بلغ أكثر من 10 – 30 ألف مرة عن المعدلات الطبيعية وكان هذا إحدى نتائج الدراسة التي قام بها العالم الأمريكي الكرواتي ( أساف دوراكوفيتش ) والعالم الكندي ( تيد ويمان ) والعالم الألماني ( سيغفرت هورست غونتر ) والعالم العراقي ( محمد الشيخلي ) وغيرهم من خبراء البحث الطبي لليورانيوم وهو مركز دولي مستقل . لقد أُجريت الدراسة في أيلول 2003 وأثبتت تواجد الإشعاع بنسب عالية في أرجاء العراق وكان ( دوراكوفيتش ) وهو رئيس المركز الدولي هو أول من كشف الصلة بين أعراض ( حرب الخليج ) وذخائر اليورانيوم المنضب . وكانت هناك دراسة أُخرى للعالم الفلندي ( بافرستوك ) وهو كبير خبراء الإشعاع في منظمة الصحة العالمية حول الموضوع نفسه , وقد أثبتت الدراسة بأن إستنشاق ذرات غبار اليورانيوم المنضب يولد آثاراً سمية جينية على الحامض النووي في الخلية وتتسبب بأضرار جسيمة في نخاع العظم والجهاز اللمفاوي .
إن نسب التلوث العالية هي السبب الأساسي لإصابة الكثير من أبناء الشعب العراقي وبضمنهم الأطفال وخاصة الولادات الحديثة بأنواع من السرطانات والتشوهات الخلقية والولادية التي إنتشرت في مناطق عديدة مثل بغداد والبصرة والأنبار وذي قار وديالى والسليمانية .
إن من المؤلم حقاً أن تستمر الأنظمة العالمية والمحلية في إستخدام الأسلحة الممنوعة والتي تُحدث تلوثاً كيميائياً وإشعاعياً وتقضي على الجهاز العصبي وجهاز المناعة وخلايا الدم ونظام الخلايا وتحول جسد الإنسان العربي الى جسد مشوه وخامل غير قادر على التفكير والإبداع وهو قادر بجهازه العصبي المريض على التخريب الفردي والمجتمعي , ولم لا وهو يشرب المياه الملوثة ويتنفس الهواء الملوث ويحيط به الإشعاع من فوق الأرض ومن باطنها وحيث تتراكم أكوام النفايات في الشوارع والأزقة وحيث تصب مياه المجاري في الأنهار , والمؤلم أكثر هنا هو أن المسؤولين عن البيئة والصحة المحلية ينفون المظاهر الحقيقية لهذا التلوث لكن صيحات الألم تسمع من الجسد العربي ومن آلاف الأطفال المشوهين تشويهاً جسدياً وعقلياً ومن مرضى التوحد الذي إنتشر مؤخراً في العالم العربي وأسبابه معروفة لكل المختصين والذي هو تناول الأُمهات الحوامل للسموم المأكولة والمشروبة والمتنفَسة وبمعنى آخر ( البيئة الملوثة ) , ويبدو أن الصراعات السلطوية قد شغلت الحكومات العربية عما يحدث في الجسد العربي من تدمير لقدراته الإنتاجية والإبداعية وقدرته على التفكير وإستيعاب العالم المحيط والأخذ بمقومات التطور الفكري والعلمي ولا يحدث هذا إلا في جسد سليم وعقل سليم .