المنبرالحر

تحطم امبراطورية الخوف/ اعداد ، حازم كويي

دروس من احداث الاحتجاجات في ساحة تقسيم (اسطنبول)

شاركت استاذة الفلسفة، التركية بيريل ادمن سوزمن في اعتصام ساحة تقسيم في اسطنبول والتي خرجت باالانطباعات التالية .
عند الأتراك مثل مشهور يقول(أزبر بوزماك) و يعني (لا تخرب ما حفظته عن ظهر قلب). كيف بدأت هذه الاحداث في ساحة تقسيم ؟ والى اين ستُقودها الايام لاحقاً، هذا الذي لا نعرفه بالضبط.
اكثر التحليلات كانت حقاً حذرة جداً ,ماعرفناه فعلاً هو اننا بحاجة الى اعادة التفكير وان ماكسبناه بالحب الصادق ،أن لانرميه في البحر لان( ساحة تقسيم) كانت تمثل حديقة اليوتوبيا السماوية .
فكرت ان العربدة هي التي ستشغل المكان، لكن ما حفظناهُ عن ظهر قلب أثبت ،ان الناس افراداً ومجموعات جلسوا مع بعضهم البعض ،هذا الذي لم يكن في تصوري والذي تطور الى التعارف والمساعدة المتبادلة بشكل لم يسبق له مثيل ولم اعشه من قبل.
كم كنت سعيدة امام هؤلاء الناس وخاصة الشبيبة فأُصبت بالخجل وانا الاكبر سناً منهم، المنشغلة بالسياسة وباعتقاد مسبق كونهم لايهتمون بهذا المجال وعدم معرفتهم بالتأريخ، لكن الصورة تغيرت عندي وبشكل كبير، ولهذا سأكون قلقة على طلابي في الفصل الدراسي المقبل لانهم وبكل فخر واعتزاز لديهم الوعي السياسي رغم وجود القليل من النرجسيين والمتعجرفين.
لقد كان متوسط اعمار الشبيبة بحدود 28 عاماً، وقد ُدهشت تماماً بمقدار الوحدة والتضامن وكفاءة التنظيم بالرغم من عدم وجود مركز قيادي، ولم يكن لي تصور بأن هؤلاء وبهذه المجموعات المتنافرة ومن جميع الاعمار والهويات، ان تقوم بتنظيم الحياة اليومية كالتغذية والرعاية الصحية وجمع القمامة وايضاً التعايش السياسي .
في الحالات التي تحدث فيها مجابهة مع البوليس او اي شخص آخر، تكون المساعدة على اهبة الاستعداد مع علامات التسامح والهدوء والادب. فاِذا حدث حريق في مكان ما في الساحة، تتحرك السلاسل البشرية هناك على الفور وعندما تطلق الشرطة الغاز المسيل على الجموع، يؤخذ المصابون فوراً وبلا تردد الى احد المجمعين الصحيين الموجوّدين هناك.
في الايام التي لايشعر فيها المرء هناك بالخطر ،تأتينا الزيارات من اناسٍ كثيرين وبالاخص كبار السن حاملين لنا الفواكه (كي ينال الاولاد تغذية صحية) .
وقد طلب مرة عمدة اسطنبول من اولياء امور المعتصمين بأن يأخذوا اولادهم الى بيوتهم كونه لايستطيع ضمان سلامتهم ،فَقَدِمت الامهات وبتقاليدهن المعروفة حيث شكلن سلسلة حول المتظاهرين وهن ينادين صائحات( الامهات هنا ، اين هو الطيب؟) والمقصود به الطيب اوردوغان.
الذي لم افهمه ،كيف يمكن لهذا التنظيم الجيد وبدون مركز قيادي وبدون ضغط وبدون مال ان يقوم بهذا العمل المدهش !
ورغم ان الباعة يتجولون في اطراف الساحة (بعضهم كان من الشرطة السرية )،فلم يكن لدى الكثير من المعتصمين المال الكافي،ومع ذلك كان يجري التوزيع فيما بينهم وبحسب الحاجة. والغريب في الامر ان اوردوغان ادعى بأن هؤلاء مدعومون من قوى اجنبية بالمال سراً، ومنذ شهور.
لم يكن الجمع هنا خلاقاً ، لكن ظهرت في ساحة تقسيم قابليات الابداع عند الشباب في مجال الغناء والرسوم الكاريكاتورية وتسجيل افلام الفيديو والتي كانت تعبر عن شكل من اشكال فن الاحتجاج والذي سمي بفن الشارع.
مرة كنا مع مجموعة من الاصدقاء والتي أبدت الشكوى، بعدم وجود شئ للقيام به وفجأة كتب احدهم على الحائط (لايخطر ببالي، بشئ اقوم به ،لكنكم تعرفون مسبقا هل هي الفوضى ام....
لقد تم هناك تأليف وتلحين المئات من الاغاني وبنصوص جديدة حيث اضيفت اليها ايقاعات مألوفة ومعظمها جيد بل جيد جداً والتي تضمنت الطرافة والسخرية وكذلك معارك النكتة حيث جو المنافسة المتبادلة والمزاج الجميل مع الموسيقى والتي هي من تقاليدنا كالرياضة الشعبية والمجلات الاسبوعية الفكاهية الموجودة منذ اكثر من قرن .
فالشبيبة نمت على هذه التقاليد حيث الكثير منها يعود لليسار .
وحين أُخليت ساحة تقسيم بالقوة، فكرنا كيف نواصل الكفاح في الشارع او ايجاد صيغة اخرى للمقاومة، واذا به تقوم حركات في عدة ساحات فيجتمع المئات هناك مرة اخرى.
احدهم اراد ان يوضح لي ،انه لشئ جيد ان لا ُيشغل الشبيبة انفسهم بالسياسة، لكننا نعرف الآن ،ان العقد الماضي كان له تأثير كبير على هذا الجيل الذين تبلغ اعمارهم العشرين ،هذا الذي لم تكن لدينا اية فكرة عنه على الاطلاق،فهؤلاء اصبحوا المنعطف الحاسم بعيداً عن الانقسامات واشكال السياسة القديمة، لهذا يتسم النشاط الآن بالتركيز على الحرية والاحترام واساليب صنع القرار المشترك.
اصحاب الانترنيت ومشجعو كرة القدم وبالاخص مثيري الشغب والمتميزين بالتعصب والزعيق وصرف المال على مباراة قد تكون سخيفة، وهم في حالة نوم بعيدين عن السياسة ،الا أن الاحداث الاخيرة قربتهم الينا وشاركونا بخبرتهم في معارك الشوارع وقاموا بالخطوة الاولى بخلق اجواء المصالحة العامة.
الكثير من كبار السن كانوا يتصورون ،ان طريق الديمقراطية ومستقبلنا سوف يدمر، والآن اتضح لهم كم هو ضروري وحتمي هذا النوع من التفكير والتعامل رغم ان ما يحدث الآن لا يمكن فهمه تماماً، لكنه مع ذلك نصر، فاصبح الانسان اكثر تفتحاً، يمارس الانتقاد والانتقاد الذاتي .
الحديث عن هذه الاحداث كثير ولهذا نصيحتي بمعرفة المزيد عن طريق الفيس بوك والتويتر. منذ اسابيع وانا افكر بما كتبه الروائي جارلس ديكنز (افضل الاوقات ،كانت اسؤا الاوقات) .
اعرف اي ثقافة ديمقراطية رائعة تسيطر على تركيا ،والتي تذكرني ببداية التسعينات في انقرة حيث الهم والحديث السياسي كان شغلنا اليومي الشاغل سواء في المجال النظري او غيره ان كانت الموسيقى، الافلام او الحفلات والذي المسه الآن عند الناس ،التي تعتبر السياسة جزءا من حياته اليومية .
الا ان الوجه الآخر السيئ يتحرك ايضاً فنرى التحريض السياسي المضاد من سياسيين مخادعين والوسط الاعلامي المرتبط بهم لخلق المضاربات بين صفوف الناس وبأِعطاء الشعور وكاننا في فلم تقف فيها جبهتان ضد بعضها الآخر وبشكل مبرمج و مبسط. ونلحظ هذه الحملة الشعواء للجهة التي تملك المال والسلطة وجهاز القمع ونصف المؤسسة الاعلامية المستمدة قوتها من مصالحها الاقتصادية المرتبطة بها.
فالشعار الذي خُطَّ على الحائط في ساحة تقسيم (امبراطورية الخوف تحطمت) يجعلني متفائلة ، فالاحتجاجات ستستمر وباشكال اخرى وستكون اقل دراماتيكية لكنها متواصلة، والشعار الآخر (هذه هي البداية ، واصلوا النضال ) هي دليل على ذلك ، فالذي تعلمناه من هذه الاحداث هو اننا لسنا لوحدنا، فالمجاميع المختلفة في حالة استعداد والذي حفظناه عن ظهر قلب باننا حفرنا قبراً للعداواة وتعلمنا ممارسة طلب المعذرةالمتبادل.
هذا التحول والتخلص من الخوف التراجيدي وصحوة الانسان التي حدثت لم تكن موجهة فقط ضد السياسة والحكومة معاً بل هي الانتقاد الذاتي والشجاعة والتضامن والذي لايمكن التراجع عنه.
والذي افرحني شخصياً بأن جوانب التسامح والاحترام الكامل والتعاشر الاجتماعي بحساسيته وقوته قد تجلى بصورة رائعة وجميلة واعطانا القوة لكي نقول (كفى) ،الذي سيعمل فيما بعد على كشف حقيقة هذه الحكومة ،ويتملكني الخجل والعجب عندما يأتي الجواب منهم سريعاً وواضحاً بكلمة (لا).