المنبرالحر

طيف ماركس الذي لا يختفي الجزء الثالث / قصي الصافي

لقد كرس كارل ماركس حياته لدراسة النظام الرأسمالي و الكشف عن أسراره وتناقضاته البنيوية، ونشر دراسات معمقة تبحث في الازمات التي تعترض مسار تطوره والتي تنشأ من جوهر التناقض بين علاقاته الانتاجية وقوانين السوق التبادلية، إلا ان الوقت لم يسعفه لتضمين وتنظيم تلك الرؤى والتحليلات ضمن نظرية مستقلة في الازمة، مما ترك نافذة واسعة لاجتهاد وتأويل الماركسيين من بعده، وقد شاعت في ثلاثينات القرن العشرين نظرية إنحسار الاستهلاك والتي ترجع الازمة إلى إنخفاض إجور العمال الى الحد الذي لا يتيح لهم شراء السلع التي يصنعونها بانفسهم، مما يؤدي إلى كساد البضائع وتباطؤ الاستثمار، وقد تبنى جون كينز تلك النظرية فكانت خطته لانقاذ الاقتصاد تدخل الدولة للاستثمار في تطوير البنى التحتية وانشاء مصارف مركزية للمراقبة والتحكم بحركة السوق المالية و اطلاق برامج لمساعدة الفقراء كالتأمين الصحي ومخصصات غذاء ومساعدات مالية ورواتب للعاطلين عن العمل للتشجيع على إستهلاك البضائع (النموذج الرأسمالي لدولة الرفاه)، لمناقشة هذه النظرية التي ما زال يتبناها بعض الماركسيين أوجه الاسئلة التالية:
- نظرية انكماش الاستهلاك قد طرحت قبل ماركس من قبل الاقتصادي السويسري سيزموندي وقد أشاد به ماركس لانه الاقتصادي الكلاسيكي الوحيد الذي ادرك التناقض في طبيعة العلاقات الرأسمالية، إلا ان ماركس لم يشاطره الرأي بأن إنخفاض الأجور هو جذر الازمات، بل أشار الى العكس تماماً في ملاحظته أن" الازمات تبدأ ببناء عناصرها تحديداً في الفترات التي ترتفع فيها الأجور فتحصل الطبقة العاملة على سهم أكبر نسبياً من قيمة انتاجها السنوي بهدف إشراكها في عملية الاستهلاك" (رأس المال ج 2 ص 414 )، كما ان انجلزهو الآخر قد رفض تلك النظرية قائلا " رودبيرتوس إقتبسها من سيزموندي ثم تلقفها منه دوهرينغ باسلوبه التحريفي المعهود" ( ضد دوهرينغ ص 341 )
- ذكر ماركس أكثر من مرة أن الائتمان والقروض تمكن النظام الرأسمالي من تجاوز هذه المعضلة بزج العامل لشراء السلع بالآجل، وبهذا يتعرض الى استغلال مزدوج، مرة كمنتج واخرى كمستهلك يدفع الفوائد، ولذا نجدها ظاهرة طبيعية اليوم أن يبحث العامل أو الموظف عن عملين في آن واحد لايفاء ما يترتب عليه من فواتير.
- رغم أن العمال يشكلون نسبة كبيرة من السكان إلا أن شرائح واسعة من ذوي الدخل المتوسط والمرتفع يشاركون في الاستهلاك كالتجار والموظفين والرأسماليين وأعداد هائلة من الجنود والضباط في الجيوش الجرارة اليوم.
- ظاهرة إنخفاض إجور العمال ملازمة للنظام الرأسمالي طالما أن الرأسمالي يسعى إلى تحقيق أكبر قدر من فائض القيمة، فهل هذا يعني طبقاً لهذه النظرية إن النظام الرأسمالي في أزمة على الدوام؟
- تطور علم النفس وقدرته على إستثارة المنظومة الغريزية للأنسان والتطور الهائل في تكنولوجيا الدعاية والاعلان قد اسهم بترسيخ ثقافة الاستهلاك، فلا غرابة ان نجد ذا الدخل المحدود يستبدل الموبايل أو الكومبيوتر سنوياً ويعمل ساعات عمل أطول أو في عملين في آن واحد لتسديد مصاريفه.
- وجود طبقات فقيرة تحيا الكفاف وغير قادرة على إستهلاك البضائع ليست ظاهرة مقصورة على نمط الانتاج الرأسمالي، بل هي سمة جميع أنماط الانتاج التي سبقته كالنظام الاقطاعي و العبودي، فكيف يمكن إعتبارها سبباً لأزمات النظام الرأسمالي.
في أنماط الانتاج القديمة تحل الازمات بسبب الكوارث الطبيعية والجفاف والحروب، و لم تكن تعاني من الكساد لكونها أنظمة كفاف ، أما في النظام الرأسمالي فقد بدأ تثوير أدوات الانتاج (بتعبير ماركس ) بفعل التكنولوجيا المتطورة، كما أن التنافس المحموم مع التطور العلمي قد فتح أبواباً واسعة للابداع والابتكار ووفرة الانتاج، إلا أنه من المتعذر - وفق قوانين السوق الرأسمالي- مطابقة وفرة الانتاج هذه مع الطلب الحقيقي للسوق، وهذا يقودنا الى نظرية فيض الانتاج في تفسير الازمة، وهي نظرية على خلاف سابقتها ترتكز إلى تحليلات ماركس وانجلز المتكررة في كل ما كتباه في تحليل الازمة.
تسبق كل أزمة فترة انتعاش استثماري بسبب زيادة الطلب على السلع، طلب فعلي أو طلب مستحث ( بتنمية روح الاستهلاك والدعاية والاعلان ..... الخ) ، فتزداد الاسعار ويتسابق الرأسماليون لزيادة الانتاج بالتوسع وتحديث التكنولوجيا والمنافسة، وبما أن الربح هو المحرك الوحيد فكل رأسمالي يحاول تغطية الجزء الاكبر من السوق، و لذا فمن المحال التنسيق بينهم بل يضخ كل منهم أكبر كمية من انتاجه لتحقيق ربحاً أكبر، حتى يختنق السوق بالبضائع فتهبط الاسعار، وتغلق - على أثر تشبع السوق - مصانع و وحدات انتاجية لتصريف ما كسد من بضائع ويسرح العمال و الموظفون، مما يفاقم الازمة لشحة القدرة الشرائية، و يبدأ الفصل الثاني من الأزمة إذ يتوقف رأس المال عن الاستثمار بسبب انخفاض الربح وخشية الخسارة (جمدت مايكروسوفت لوحدها 5 مليار دولار بعد ازمة إنهيار ليمن بروذرز ) وقد وصف ماركس تراكم رأس المال المجمد قائلاً " أثناء الازمات، بعد لحظة الهلع وأثناء جمود الصناعة، تشل حركة النقود في ايدي المصرفيين ووسطاء الاوراق المالية ( المضاربين). . -الخ، ومثلما يصرخ الظبي لأجل الماء العذب، تصرخ النقود لأجل حقل يمكن ان توظف فيه كرأسمال). المضاربة المالية بالاسهم والسندات التي تسرع من الوصول إلى الازمة تتعرض هي الاخرى عند حصولها إلى انهيار يفاقم الأزمة أكثر، فالمضاربون يسارعون إلى بيع الأسهم والسندات التي انخفضت اسعارها بأبخس الاثمان خشية التعرض إلى خسارة أكبر.
النظرية الاخيرة و الأحدث في تفسير الازمة ترتكز على نظرية ماركس في ميل نسبة الربح الى الانخفاض لارتفاع التركيب العضوي لرأس المال والتي سنتعرض لها في الجزء القادم من المقال.
ملاحظة: الاقتباسات مأخوذة من النسخ الانجليزية لرأس المال و ضد دوهرينغ وقد حرصت في الترجمة على الالتزام
بمضامينها
الجزء الاول
الجزء الثاني