المنبرالحر

عمال العراق .. تاريخ مشرف ومستقبل مجهول / احمد عواد الخزاعي

نتيجة للتطور السريع الذي طرأ على الصناعة في الغرب احتاجت هذه الدول الى اسواق جديدة لتصريف منتجاتها، والى مصادرللتمويل بالنسبة للمواد الاولية الرخيصة فعمدت الى احتلال بعض بلدان العالم لتحقيق هذه الغرض الاستعماري، وكان من نتائجه نزول القوات البريطانية الى الاراضي العراقية عام 1914 وبداية الاحتلال الاستعماري الحديث للمنطقة بعد رحيل الدول العثمانية عنها مهزومة نتيجة خسارتها في الحرب العالمية الاولى عام 1918. وجلب المحتل الجديد معه جزءاً من ارثه الحضاري وتطوره التكنلوجي فنشأت الورش والمصانع الصغيرة في المدن العراقية،والتي كان اغلبها تابعا لمستثمرين اجانب وشركات انكليزية، وظهرت طبقة جديدة في المجتمع العراقي هي طبقة العمال والحرفيين، وشكل هؤلاء النواة الاساس لحركات واتحادات عمال العراق، البلد الذي اطل على القرن العشرين، فيما هو عبارة عن قرية كبيرة، يعاني الجهل والفقر والحرمان. وقد شكلت هذه الطبقة قاعدة ثورية جديدة في المجتمع العراقي، المطالبة بالحقوق والعدالة والمساواة، فكان اول حراك لها هو اضراب عمال شركة (بيت لنج) النهرية عام 1918 للمطالبة بمساواتهم بالاجور وساعات العمل مع نظرائهم من الجنسيات الاخرى.
وقد جوبه هذا الاضراب بقسوة من قبل المحتلين الانكليز . لكن الحادثة التي شكلت نقطة التحول وخط الشروع لنهضة عمال العراق هي اضراب عمال سكك الحديد عام 1927 ضد شركات النقل البريطانية، فقد رفعوا عدة مطالب الى هذه الشركات، والى وزارة الاشغال اّنذاك، وباصرارهم الدؤوب على تحقيق مطالبهم، استطاعوا الحصول على جزء مهم منها وهي : تحديد عدد ساعات العمل والعلاج الطبي المجاني، وعلى اثر هذه الحادثة تأسست اول جمعية لارباب الحرف والصنائع في العراق عام 1929، وبعد ذلك سن قانون العمل رقم 72 لسنة 1936 والذي حدد فيه حقوقهم وواجباتهم.
استمر عمال العراق في المطالبة بحقوقهم كجزء من حقوق شعبهم المسلوبة، كأضراب عمال المطابع عام 1942 للمطالبة بتطبيق الفقرة 72 من قانون 1936 والتي بقيت حبرا على ورق، ومنها تحديد ساعات العمل وزيادة الاجور بنسبة خمسة وعشرين في المائة، وجاء اضراب عمال شركة دخان جعفر وجاء اضراب عمال شركة دخان عبد العزيزعام 1953 للمطالبة بنفس الحقوق، وكان لهذا الزخم والحراك الجماهيري لعمال العراق الاثر الاكبر في تبلور قاعدة ثورية حية في اوساط المجتمع تجاوزت في مطالبها وطموحاتها حقوقها الخاصة وتعدت الى مفاهيم اكبر واوسع كالمطالبة بالحرية والاستقلال التام، ونوع وشكل النظام السياسي الحاكم في العراق اضافة الى حضور البعد القومي والدولي في حراكها السياسي الداخلي، خصوصا بعد تنامي الفكر اليساري في اوساطها ونجاج التجربة الاشتراكية في الاتحاد السوفيتي السابق. وتوج هذا النضال بقيام ثورة تموز المجيدة عام 1958 وقام الزعيم عبد الكريم قاسم بافتتاح ورعاية المؤتمر التأسيسي الاول للاتحاد العام لنقابات العمال في الجمهورية العراقية في تموز عام 1959، وبعدها انعقد اول مؤتمر عام لها في شباط 1960 تحت اشراف ورعاية ودعم هذه الجمهورية الفتية وقد شكلت الطبقة العمالية الركيزة الاساس لهذه الثورة والدفاع عنها، وحققت الثورة الكثير من الانجازات على الرغم من العمر القصير لها الذي لم يتعد الخمس سنوات. وكانت الطبقة العاملة اولى القوى المستهدفة بعد انقلاب شباط الاسود عام 1963 والذي قامت به اذناب الرجعية من قوميين وبعثيين، فامتلأت السجون والمعتقلات بمناضليهم، وكانت من اسوأ الفترات في المسيرة العمالية هي تسلط البعث على زمام السلطة في العراق، فسعى الى القضاء عليها باتجاهين: الاول كان بانهاء كل فكر يعارض او يتقاطع مع ايديولوجية البعث وقد عمل على ذلك بمحاربة كل التوجهات الوطنية واليسارية داخل الاوساط العمالية ومن ثم سيطرة البعث على كل الاتحادات والنقابات العمالية لاحقاً بعد انهيار الجبهة التقدمية عام 1979 وقتل وسجن ومطاردة كل القوى الوطنية التي كانت منضوية تحتها من قبل النظام البعثي الحاكم، والاتجاه الثاني كان القضاء على التحدي السياسي والفكري والتعبوي الذي كانت تمثله هذه الطبقة الحية في المجتمع للنظام من خلال محاولة اذابتها ودمجها ضمن منظومة اكبر وجعلها جزءا من الحراك الذي يصب في صالح السلطة واهدافها، فاصدر مجلس قيادة الثورة المنحل القرار رقم 150 لسنة 1987 والقاضي بتحويل جميع عمال العراق الى موظفين، وبذلك سعى هذا النظام الى انهاء مسيرة نضالية دامت لعقود طويلة وصادر حقوق ووجابات هذه الشريحة الفاعلة في المجتمع، ومن ثم اصبح عمال العراق وقودا لحروب النظام العبثية كحربه مع الجارة ايران واحتلاله الكويت ومغامراته الكارثية التي اوصلت العراق الى حافة الهاوية. وكان النظام يحظى بدعم القوى الغربية، أضافة الى تسخير خبراتهم وامكاناتهم لعجلته الحربية في مصانع ومنشآت التصنيع العسكري، بدلا من تحويل هذه الجهود لبناء قاعدة صناعية تساهم في تطور وازدهار العراق الذي يمتلك امكانات مادية وبشرية استثنائية على عموم المنطقة والعالم. وبعد سقوط الصنم عام 2003 تخلصت هذه الطبقة كما الشعب العراقي باكمله من حكم نظام البعث وبدأت تستعيد جزءا من عافيتها، لكن بخطى وئيدة جدا، حيث ما زالت آلاف المعامل والمصانع متوقفة عن العمل والقطاع الخاص اقرب الى الشلل العام، بسبب عدم وجود سياسة اقتصادية واضحة للدولة في موضوع حماية المنتج الوطني والحد من الاستيراد العشوائي للسلع والبضائع، ودعمه من قبل الدولة من خلال إصدار القوانين الخاصة بالاستثمار والتشجيع على الصناعات الوطنية، والحد من استقدام العمالة الخارجية.
لذلك على الدولة الالتفات إلى هذه الشريحة المهمة من الشعب العراقي والعمل على اعادة احتضانها ودعمها بكل السبل والامكانات للنهوض من جديد، من خلال اصدار القوانين والوائح التي تنظم عملها، واعادة تاهيل المعامل والمؤسسات في القطاع العام، وفتح المدارس والمعاهد الفنية والمهنية التي تاخذ على عاتقها تخريج الايدي العاملة الماهرة، ودعم القطاع الخاص الذي من شأنه المساعدة في استيعاب هذه الايدي العاملة والاسهام في الحد من البطالة.