المنبرالحر

الدكتاتورية سقطت..الدكتاتورية لا تزال / عبدالمنعم الاعسم

استمرار الميل الى "منطق" ولغة وسياسات صدام حسين من قبل المعارضين السابقين الذين يديرون شؤون الدولة الجديدة وينتسبون الى عهدها، وايضا بالنسبة الى جمهور من الضحايا السابقين، ليس فقط امرا من مضاعفات خيبة الامل حيال حلم التغيير أو رد الفعل على اضطراب الاوضاع وعلى الخلل الذي يضرب مفاصل الادارة وقيم الوظيفة والشعور بالامن، بل هو ايضا اشتقاق من الاثر السايكولوجي العميق لحقبة الدكتاتورية في الوجدان الجمعي للضحايا، وسيبقى هذا الميل قائما ومُعبرا عنه باشكال مختلفة، طالما يوضع في خانة "المسكوت عنه".
في التجارب التي سبقت الحالة العراقية عكف المحللون الاجتماعيون على بحث مخاطر الاثار التي تتركها الدكتاتوريات في سلوك الاجيال التي عاشت الاهوال تحت حكم القمع الطويل ومصادرة الحريات، وبين ايدينا نماذج من الدراسات والحلول القيمة من الارجنتين وجنوب افريقيا واسبانيا، والكثير منها انتج معارف طبية تطبيقية جديدة لمعالجة الضحايا والحيلولة دون ان يمارسوا حياتهم تحت تاثير تلك الحقب السوداء، والاهم دون ان يعاد انتاج ثقافة الدكتاتورية المهزومة.
وقبل تلك التجارب بعقود طويلة كانت تجريدات التأثر بالبيئة الضاغطة موضع دراسة طليعية من قبل العالم البايالوجي الروسي إيفان بافلوف في القرن التاسع عشر ونال عنها جائزة نوبل العام 1904 وتقوم على رصد تفاعل الانسان، والحيوان أيضا، مع التأثيرات الضاغطة واستمرار هذا التفاعل رغم غياب مصادر التأثير واشكالها (سقوط الدكتاتورية) وكانت تجارب بافلوف على الفئران والكلاب في غاية الاهمية حول تحول المنعكس الشرطي (المظالم) بالتكرار لسنوات طويلة الى منعكس لاشرطي حيث يثير غضب الضحية حالما يتذكر المظالم مرة اخرى، وقد يقع في حالة?الاعجاب الخفي بها.
لكن ابو حامد الغزالي صاحب (تهافت الفلاسفة) لاحظ في إحد بحوثه طغيان (الروح الخيالي) لدى الانسان مستشهدا بالكلب الذي يهرب بعيدا كلما رأى العصا إذا كان يضرب بها في السابق باستمرار، ما يبقي هاجس الالم قائما في اللاشعور حتى مع ابتعاد خطر العقاب، وقد اعتبر رد الفعل هذا بمثابة حشوة لنظرية ابن خلدون عن لجوء الضحية في حالات معينة الى الاعجاب بجلاده.
وفي انتباهة لرسول حمزاتوف، يقول، ان أبناء قريته في اقاصي داغستان كانوا قد هجروا نبع ماء كان قد شهد مذبحة لعشرين من نسائهم، وكان الجيل الثالث من ابنائهم يرتعبون ذعرا كلما مروا بالنبع، وكان كثير منهم يضطرون للمشي يومين بدل ان يسلكوا الطريق عبر النبع مخافة ان يتذكروا بشاعة المجزرة. وقبل سنوات قليلة قال مراسل اجنبي كان قد التقى العشرات من العراقيين وتحدث اليهم عن مستقبل بلادهم، إن الناس هنا لم يخرجوا بعدُ من الكوابيس، وهم يتصرفون كما لو انهم في زنزانات.. وكدت أعد هذه الصورة فرطا من المبالغة، لولا ان بافلوف والغزالي وحمزاتوف سبقوا المراسل، الى تأويل ما تتركه القسوة في الاعماق.
الدراسات الحديثة عن اثار الحقب الدكتاتورية على الشعوب تحذر من ميلين خطرين، اولهما، الاستمرار بالخوف من شبح الجلاد ، كما لوانه لا يزال حاكما، وثانيهما، الانحراف الى الاعجاب الخفي بالجلاد، كما لو انه كان بريئا.
*******
" من أَسْرَعَ إلى الناس بما يكرهون قالوا فيه ما لا يعلمون".
الاحنف بن قيس- صحابي