المنبرالحر

الصحفي الشيوعي ومحركات المعرفة اليومية / جاسم المطير

في مناسبة عيد الصحافة الشيوعية تقفز امامي اسماء لامعة كثيرة من امثال ( عامر عبد الله ، مفيد الجزائري ، صادق الصائغ ، فخري كريم ، عدنان البراك ، زهير الجزائري، رائد فهمي ، سعاد الجزائري ، فالح عبد الجبار، صادق الصائغ ، عبد المنعم الاعسم ، عزيز الحاج ، غانم حمدون ، نصيف الحجاج ، رشيد الخيون، فاطمة المحسن ، زكي خيري ،عزيز سباهي، سعود الناصري، سلوى زكو، جلال الماشطة، سعدي الحديثي، ألفريد سمعان ومئات غيرهم ) لكنني حيال الكتابة بحدود مقالتي هذه، تذكرتُ مأثورات اربعة اسماء متميزة هي:
• عبد الجبار وهبي.
• شمران الياسري .
• ابراهيم الحريري.
• رضا الظاهر.
تذكرتُ هذه الأسماء ، التي شاركت بطاقاتٍ مذهلةٍ لتطوير الصحافة الشيوعية في بلادنا ، حال استلامي ، يوم امس، رسالة الكترونية من الشاعرة وفاء الربيعي في برلين، دعتني فيها الى المساهمة بمعاني الشعور العام بـ(يوم الصحافة الشيوعية) التي تحييها كل عام جريدة طريق الشعب الغراء.
ابتداء اقول انني اقدم الشكر الجزيل الى الشاعرة (وفاء) التي ذكرتني بضرورة كتابة مقالة ولو قصيرة عن هذه المناسبة. على الفور وجدتُ في ذهني فكرة العلاقة بين (الظواهر العامة) و(الاساليب الخاصة) في الصحافة الشيوعية العراقية، أي عن فكرة العلاقة بين الروح النضالية الشخصية والجسد التنظيمي الشيوعي . من خلال هذه الفكرة جاءت هذه المقالة القصيرة تحمل بعض اشارات الى اشكال التميز الصحفي في كتابات اربعة صحفيين شيوعيين متميزين .
من المعروف تاريخياً أن الصحافة الشيوعية في كل بلد من بلدان العالم – بما فيها العراق – تحمل ، في العادة ، تيارا فكريا متصلا بوهج اساليب النظرية الماركسية المتطورة ، متصلاً اتصالا لا انقطاع له ، في كل المراحل، بالرغم من خلو صحافتنا الشيوعية العراقية خلال العقدين الزمنيين الماضيين من مقالات ماركسية مترجمة أو مستقاة من التربة الصحفية الواقعية الماركسية بمختلف بلدان العالم، مما يحتاج اليه الصحفي الشيوعي من الجيل الجديد . في العموم اقصد ان الاتصال المطلوب، هنا ، هو الرابطة القوية بين ادوات الصحفي الشيوعي والنضوج العقلي والعلمي في التجارب الصحفية الشيوعية العالمية .
ربما يعتقد البعض ان مثل هذه المعرفة نوع من الآلية المعقدة او المثالية الانعزالية في الكتابة الصحفية بالجريدة الشيوعية اليومية. مما يعني القول ان المنطلق الاول و الاخير للصحفي الشيوعي يظل محدوداً في الواقع الاجتماعي الفعلي وفي الرؤية الصحفية الشيوعية ليس غير.
كلا.. ان المعنى الاساسي هو ان يظل الصحفي الشيوعي العراقي في سياق متابعة التطور الاجتماعي – الاقتصادي – السياسي في عمق المجتمع وسطوحه . معناه أن يظل عقله موضوعاً مركباً قادراً على فهم وتفسير التناقضات القائمة بين الوحدات الاجتماعية العليا ،الممثلة بالدولة وحكومتها، وبين الوحدات الاجتماعية الدنيا ، الممثلة بطبيعة العلاقات الاجتماعية، أي المشاركة بحماسة فكرية وثقافية وصحفية في كشف الصراع العقلي بين المجتمع السياسي ذي الاقلية العددية و(المجتمع المدني) ذي الاكثرية الشعبية .
المعنى الجوهري لهذا القول هو ان يمارس الصحفي الشيوعي حريته لبلوغ المعرفة في الفضاء الاجتماعي على وفق منهج تحليلي – نقدي.
هل وصلت تجارب الصحفيين الشيوعيين العراقيين الى هذا المستوى من الجدل التحليلي – النقدي ..؟
اذا عرفنا ان عمل الصحافة الشيوعية في كل مكان وزمان يقوم على الجدل المتواصل، الجدل اليومي حول مكامن اتفاق واختلاف عناصر العالم الجماهيري المتحرك، الذي يعيش فيه الانسان الصحفي بيومياته ، فأن بإمكاني الاجابة على السؤال الانف الذكر بكلمة (نعم) من دون تردد.
اقول بثقة ان التجربة الصحفية الشيوعية العراقية الممزوجة بمتابعة النضالات الشعبية العراقية طيلة 83 عاما قد اوجدت طلائع من الصحفيين الثوريين معنيين بالعدل الاجتماعي والحرية والروح الديمقراطية .
في مقابل الزمان الطويل بقراءاتي للصحف الشيوعية السرية والعلنية ابتداء من اول مرة تسلمت فيها بفخر جريدة القاعدة السرية ، التي قرأتها سرّاً، بنزعة من الخوف الشديد وانتهاء بقراءاتي اليومية لصحيفة طريق الشعب على الانترنت في الزمان الحالي، بنزعة من السرور الشديد ، حيث تجعل زمان العراق ومكانه لهما وجوداً حياً مؤثرا في غربتي البعيدة.
استطعتُ ان اكتشف اساليب كثيرة متنوعة لعشرات او مئات المحررين والكتاب المتنوعين بقدراتهم على تفصيل اجزاء المقالة او الكتابة الشيوعية عن القضايا والمواقف المتنوعة، وهي تحقق للقراء الغاية الاساسية من وجود صحافة شيوعية. التحديد العيني سأركزه على بعض النماذج من الكتاب المعروفين ،الذين بلغوا خط معرفة الاسلوبية المطلوبة في الصحافة الشيوعية ونهضوا بتطويرها.
اتذكر ،هنا، بعض يوميات الصحفي الشهيد عبد الجبار وهبي (ابو سعيد) . كان يكتب يومياته في جريدة اتحاد الشعب خلال فترة الحرية النسبية بعد ثورة 14 تموز 1958 وكنت اواجه الصراع حال وقوع الجريدة بيدي: هل أقرأ الافتتاحية في الصفحة الاولى (رأي الحزب) أولاً ، أم أقرأ ( رأي) ابو سعيد في الصفحة الاخيرة ..؟! لكن في اغلب الاحيان بعد توارث العادة والتجربة كنت اجد نفسي بادئا بقراءة الصفحة الاخيرة ، حيث يجبرني عنوان مقالة ابي سعيد على الارتقاء بالقراءة من الأخير الى الأول ، من رأي الفرد إلى رأي الجماعة. الاخير من صفحة الجريدة يدخلني الى تاريخ اليوم نفسه .
كان عبد الجبار وهبي كاتبا من نوع خاص لا يكتفي بمقالاته عن حقيقة من حقائق المجتمع العراقي اليومية، بل يبحث من خلال كلمات معدودة ، عن كيفية جعل وجه قارئها مهموما و مسرورا بآن واحد. مهموما لأنه يكتشف خطيئة ما ومسرورا لان كاتبها يضع القارئ امام منطق التاريخ السياسي اليومي بما فيه من شواغل ومهمات.
يضع الكاتب عبد الجبار وهبي نقاط قلمه على خطيئة من خطايا الدولة او احد مسؤوليها او حتى على خطيئة من خطايا افراد المجتمع المنطوية على نفسها او المشاركة في رابطتها مع خطايا الدولة .
كان عبد الجبار وهبي يحيا مع ما يكتب ومع ما ينفعل به ويتفاعل معه ، لكن الحقيقة التي يوصلها على يمين الصفحة الاخيرة الى القارئ ليست حقيقة انفعالية، بل هي حقيقة فعلية مقنعة تدين خوفاً أو إرهاباً تنشره اجهزة الدولة.
كان هذا القلم ملتزما كل يوم بالسخرية من كل نتائج خطايا الذين لا يعون معاني الحرية التي يريدها الشعب.
ربما بنفس النوع من الحرية اتذكر اختبار نوع آخر من اختبارات الاساليب الشعبية في مخاطرة الكتابة الصحفية على ضوء التحليل والتركيب والتنوع في البحث والمقالة والرواية تجمعت ،كلها، في قلم الصحفي الراحل شمران الياسري. كان كل قارئ من قرائه يحس حال قراءة ما يكتبه قلم شمران ان شعوره اصبح حرا ، بل انه يشعر بضرورة الانتقال من الشعور الحر الى الفعل الحر.. كان يجد الصلة الوثيقة بين الفرد في المجتمع والحرية التي تحجبها الدولة بيد قادتها او في تفاصيل عمل مؤسساتها.
لم يكن شمران الياسري يبحث عن (نظرية الوسط) عما يجري داخل البيئة الشعبية العراقية بكل انواعها ، بل كان يبحث عن الظواهر الحية وعن اساليب النضال الانساني الحي في واقع الفقراء من الناس في المدن والأرياف.
ثالث الامثلة النموذجية وجدته في قلم الصحفي الشيوعي البارع ابراهيم الحريري من خلال كتاباته في جريدة طريق الشعب بعد نيسان عام 2003 حيث كانت هذه الجريدة اول جريدة عراقية تنزل الى شوارع بغداد بعد سقوط النظام الدكتاتوري. كنت اتسامع مع ابراهيم الحريري صوتيا بواسطة الهاتف كلما سنحت لي الفرصة اثناء وجودي في عمان الاردن واثناء وجوده في كندا ، ثم التقينا في لندن بدار الصديق سعدي الحديثي بعد سقوط الدكتاتورية بأيام قليلة وهو في طريقه من منفاه الكندي الى مكانه ببغداد محررا في جريدة طريق الشعب.
وجدت في كتاباته خلال العقد الماضي ممكنات صحفية جديدة بطاقات جديدة، متفاعلة مع تجارب زمن طويل قبل ذلك تولى فيه ابراهيم الحريري مشاركة متنوعة واعية للطاقة الصحفية الشيوعية بجريدة اتحاد الشعب بعيد ثورة 14 تموز عام 1958 .
وجدته في الزمان الجديد يكتب مقالاته بنزعة متجددة اثارت عندي احساسا عن معنى الابداع الصحفي فقد وجد ابراهيم الحريري نفسه داخل معايير جديدة صعبة وقاسية ومعقدة حين اندمج مجتمع ما بعد عام 2003 مع مبادئ الحرية في الشارع العراقي وبالتالي مع الصحافة العراقية ومنها جريدة طريق الشعب، لكن تحت ظل البربرية الاحتلالية الامريكية وتحت ظلال السيطرة البربرية الطائفية .
لم يكتب مقالاته بصيغ مبدعة جديدة النوع فحسب ، بل كتبها امتدادا لروحية التيار الذي وجد نفسه داخله في جريدة اتحاد الشعب عام 1958.
ساهم الصحفي ابراهيم الحريري مع الصفوة الصحفية داخل جريدة طريق الشعب ليكون واحدا من صحفي العصر الجديد ومن كتابه الممتازين. يومياته او أسبوعياته او ذكرياته قامت في جريدة طريق الشعب خلال العقد الماضي على وقائع منظورة، لكن بوجدان فكري وبموهبة من الادراك الصحفي العالي.
اجد نفسي في الكتابة عن النموذج الصحفي الشيوعي الرابع، امام ضرورة الاشارة الى عصب من اعصاب المدرسة الصحفية الشيوعية المتمثلة بهدوء وعلمية وطراوة وذكاء وبلاغة قلم الصحفي رضا الظاهر.
لا ينظر هذا الصحفي الى مجريات حياة الناس اليومية من خارجها ، بل من اعماق وجودها الموضوعي، من اعماق تناقضاتها وصراعات اسبابها .
يحاول الظاهر ، دائماً، بمقالاته المكثفة ان يتولى مهمة تعريف القارئ وتوعيته وايقاظه في زماننا الحالي، زمان الحيرة واليأس وبربرية اختطاف المواطنين وقتلهم بمفخخات الشوارع ، زمان السطحية السياسية السائدة في الدولة والبرلمان ، حيث يرى الانسان العراقي نفسه ضائعا في لجة الفوضى والطبيعة المتصارعة على المناصب والمكاسب داخل الدولة والمجتمع.
الحرية التي يمارسها الصحفي رضا الظاهر بمقالاته جعلت خطاب الفلسفة السياسية يسيرا على قارئ مقالاته، كما ان قلمه غدا قادرا على الوقوف من خلال الكلمة الصحفية الواعية النادرة في بلاغتها وعلميتها بوجه كل محاولة تضليلية تقوم بها اجهزة اعلام او صحافة التخلف والعدوان على الضمير الانساني في العراق الجديد، الذي ما زال جريحا نازفا.
في الختام اقول ان دور الصحافة الشيوعية العراقية ما زال متواصلا بتنشئة اجيال جديدة واعية متفتحة على الواقع وعلى المساهمة في تشكيل مسيرته نحو المستقبل.
اجد من المناسب الدعوة ،هنا، للعمل ،بكل يوم، على وفق تخطيط علمي واسع لتطوير امكانيات الصحافة الشيوعية في العراق (جريدة طريق الشعب.. مجلة الشرارة في النجف.. مجلة الغد في البصرة .. مجلة الثقافة الجديدة ببغداد .. وغيرها) إذ لا بد من العمل المتواصل ليس في الدعوة الى الحق والحرية وحسب، بل في تربية جيل صحفي شيوعي جديد متتلمذ على الوفرة التعددية في تجارب ومأثورات الكتابة الصحفية ، التي كابد انتاجها صحفيون طليعيون من امثال عبد الجبار وهبي وابراهيم الحريري ورضا الظاهر وشمران الياسري.