المنبرالحر

مجموعة المفاهيم عن الدولة وعن الدولة المدنية الديمقراطية / علي عبد الواحد محمد

الواقع المزري الذي عاشه الإنسان العراقي ، في الحقبة التي سبقت قيام الدولة العراقية ، في العصر الحديث ولعل اقربها الى الذهن ، والى الذاكرة الشعبية العراقية ، هي فترة خضوع البلاد الى فترة الحكم العثماني ، التي تميزت بضعف الصلة بالباب العالي ، وإقتصارها على الحملات التأديبية ، للتمردات المستمرة وحالات الإمتناع عن دفع الضرائب، الى الولاة ، والتهرب من هذا الدفع ، وكذلك قيام القبائل البدوية، القاطنة على تخوم المدن بالغزوات المنظمة لها ، ونهبها وسلبها .
هذا الواقع ادى الى ان يعتمد الناس على انفسهم ، في تدبير مختلف إمورهم ، وكان ابرزها الدفاع عن النفس والعائلة والسكن ، فولدت ظاهرة الأشقيائية أو الشقاواه (تشبه القبضايات في سوريا والفتوات في مصر) ، وهي ظهور ابطال شعبيين في الحواري والمحلات، يقومون بالدفاع عن المحلة وبناتها وأبنائها ضد إعتداءات القبائل البدوية وغزواتها ، وفي المعارك التي غالبا ما تحدث بين المحلات الشعبية في هذا الطرف أو ذاك. وكان تقبل الناس لهذه الظاهرة مسألة عادية ، لكون الناس فقدوا أملهم في الدولة التي كانت غريبة عنهم من جهة وعاجزة عن حمايتهم من جهة ثانية ، ولإرتباط فكرة المخلص بإذهان الناس ،لإمتدادها عميقا في تراث وادي الرافدين ، في معظم اساطيره وحكاياته ، وفي المأثور الديني، فكان الناس يبحثون عن هذا المخلص الذي يزيح الظلم عنهم ، ويقيم العدل ، واعتقد إن هذا السبب كان وراء التعاون مع الأنكليز ابان الثورة العربية ضد العثمانيين ، واستمر الحال هكذا حتى قيام الدولة العراقية ، لعجز الإنجليز من الحكم المباشر للبلاد ، التي شهدت ثورات وتمردات ضدهم ، وآخرها الثورة الكبرى في عام 1920م .
إذن تكون الحكم الوطني ، من ناس لم يشاركوا في ثورات العراقيين ، وعلى رأسهم ملك غير عراقي . فكانت الغالبية العظمى من الشعب العراقي غير مرتاحة لهذا الحكم ،الذي كان اداة طيعة بيد المستعمر، وشهدت بواكير هذا الحكم ، ترتيبا طبقيا جديدا لصالح شيوخ العشائر ، إذ تم تحويل الأراضي التي كانت تملكها كل عشيرة بشكل مشاعي، الى ملكية خاصة لشيخها ، وتحول الشيوخ بقوة قانون تسوية حقوق الأراضي الذي اصدره الإنجليز في ثلاثينيات القرن الماضي، الى اشباه إقطاعيين ، وكذلك فعلوا مع كبار مستثمري الأراضي الزراعية ، ومع الأغاوات ، فحولوا ملكية الأراضي المستصلحة والجيدة ، الى ملكية خالصة ، بعد ان كانت رقبة ملكية الأرض في العراق بيد الدولة، وتحالفت هذه الحكومة مع كبار التجار وكبار ملاكي العقارات،هذا التمايز الطبقي ، إنعكس عنه نوعان من الفهم للواقع الجديد ، حيث اعتبر المستفيدون من الوضع الجديد إن الإمتيازات التي حصلوا عليها هي هبة من السماء مكافأة على إجتهادهم ، اما الذين إزداد فقرهم وعوزهم نتيجة الوضع الجديد فقد فسروا ما جرى لهم كغضب من السماء نتيجة ، موافقتهم على زوال العثمانيين ، وموافقتهم على المستعمرين الأجانب. بالمقابل هناك رأي ثالث اخذ يتبلور بشكل اوضح ، حمّل المستعمرين البريطانيين ، والحكومة المنقادة لهم مسؤولية، التطورات الحادثة .
هذه الأمور المتسارعة ادت الى بروز رؤى جديدة لطبيعة الدولة وسبل تطورها :
1) رأي يرى اهمية وجود الدولة العراقية القوية المستندة على القانون في المدينة والريف
2) رأي يرى في الدولة العراقية ، خروج عن الإتفاق الذي عقد بين شريف مكة حسين بن علي وقادة الجمعيات العربية في سوريا والعراق ، ووعد بريطانيا وفق مراسلات حسين - مكماهون عام 1915م ، بقيام الدولة العربية الواحدة.
في الرأي الأول تعددت الرؤى ، عن كيفية إستمرار هذه الدولة في الوجود ، فكان قسم يرى إن المملكة العراقية بشكلها الحالي ، وبتقسيمها الإداري ، هو الشكل المناسب ، وإن قضية التبعية للإرادة البريطانية تحتمها ظروف تأسيس الدولة، وإن قضية الإستقلال التام ستحدث نتيجة للتطورات المستقبلية.
وقسم آخر يرى الإبقاء على شكل الحكم ، ولكن من الضروري الخلاص من التبعية البريطانية ومعاهداتها المذلة للشعب العراقي.
اما القسم الثالث فتبلور في المراحل اللاحقة لمسيرة الدولة ، ونعني به ، اهمية تغيير الحكم الملكي الى حكم جمهوري ، ينهي التبعية للمستعمر .
الرأي الثاني ، يرى إن العراق جزء من الأمة العربية ، وإن بريطانيا خانت تعهداتها ، خاصة في عام 1948م عندما تم اصدار وعد بلفور ، لإقامة وطن قومي لليهود ، في فلسطين ، وخير من عبّر عن ذلك الشاعر بشارة الخوري (الأخطل الصغير) حين قال :
قل لجون بول إذا عاتبته سوف تدعونا ولكن لا ترانا
يوم نادانا فلبينا الندا وتركنا نهية الدين ورانا
واصحاب هذا الرأي يرون في الوحدة العربية ، هي المنقذ ، لكل مشاكل البلاد .
ولكن في كلتا الحالتين تنوعت التصورات عن طريقة الحكم ، وتداخلت الرؤى حول ذلك ، فلم يكن يفرق لديهم ، سواء كان الحكم دكتاتوريا مطلقا، أو برلمانيا دستوريا ، ولكن المهم ، ان يكون الحكم دولة قوية تحقق مصلحة الوطن، فيفرح أنصاره دون ان يقيموا وزنا للديمقراطية وغيرها من المثل التي تبلورت لاحقا مع التطورات الحاصلة في كل العالم . وكذا الحال بالنسبة لإصحاب الرأي الذين أيدوا الملكية ، لم يكترثوا لتبعية النظام الملكي للمستعمر ، وإستعداده الدائم لتنفيذ السياسات والقرارات التي تمليها الإدارة البريطانية ، وإن كانت ضد مصلحة الشعب العراقي ، وإن تطلب ذلك إستخدام القوة المفرطة والأحكام العرفية التي اعلنت لمرات عديدة ، في تأريخ الوزارات العراقية، أما الذين رأوا ، إن بريطانيا تخلت عن تعهداتها بإقامة دولة الوحدة العربية ، وفرطت بفلسطين وشعبها بعد ذلك ، فقد وقفوا الى جانب الحكومات الدكتاتورية ، التي أقيمت في العراق لاحقا وتسنت لهم كل الظروف لإقامة الوحدة العربية ، فلم يحركوا ساكنا لذلك.
في واقع الحال بعد أن إزدادت ، الهجرة من الريف الى المدينة ، بفعل العوامل الإقتصادية ، والعوامل الإجتماعية والسياسية، هاجرت قيم الريف ، والعشيرة مع المهاجرين ، بل وإن هؤلاء يشعرون بإنتمائهم الريفي اكثر منه للمدينة، وانتقلت هذه القيم الى الأبناء الذين على الرغم من بعدهم عن منبعهم الأصلي، وانعكست النزاعات القائمة بالأرياف في المدن ، فانشغلت مؤسسات الدولة بهذه النزاعات، التي لا تكون حلولها الا بيد العشائر، الأمر الذي ، جعل كثير من الناس يلجأون الى الحلول العشائرية، لفض النزاعات ، هذا الواقع أضعف الدولة ومؤسساتها القانونية ، لدرجة ان تطلب مراكز الشرطة ورجال القانون ، من المتنازعين ان يحلوا نزاعهم عشائريا، قبل طلب الحل من القانون ومؤسساته .
ومع سيرورة الدولة العراقية ولغاية الإحتلال الأمريكي للبلاد في 2003م ، ظهر هناك إتجاه عراقي ينتمي الى إتجاهات سياسية مختلفة ، ربط الدعوة الى الإستقلال عن هيمنة المستعمر ، مع الدعوة لحل المشاكل الإقتصادية والإجتماعية ، ودعى الى الحريات ، وخاصة حرية التعبير ، وحث على حق الناس في إقامة شعائرهم ، وظهرت منظمات وأحزاب أقترن اسمها بالديمقراطية ، وكانت هناك دعوات وممارسات صريحة لإقامة ، إتحادات ، ونقابات ، وجمعيات ، ففي العهد الملكي تكونت جمعية اصحاب الصنايع ، وهي بمثابة نقابة للعمال ، وكان لعمال السكك في الشالجية تنظيمهم ، وللمرأة، وللشباب وللطلبة تنظيماتهم ، وكان من الطبيعي ان تتضمن مطالب أصحاب هذه الكيانات ان ترعى الدولة قيام هذه التنظيمات والتنظيمات المماثلة. وفي العهد الملكي ، ويصادف ذلك مع إعلان الدولة عن نيتها في إجازة الأحزاب.
خلاصة القول :
إن الأراء حول الدولة لم تكن واحدة منذ قيام الدولة العراقية ولغاية الإحتلال الأمريكي للعراق فتوزعت هذه الآراء ما بين تأييد للحكومة القوية ، التي تؤمن للناس أمنهم وعيشتهم ، وما بين أن تكون الدولة خاضعة لقوانين العشائر ، وأن تصبح هذه القوانين هي المسيرة للناس، وظهرت آراء تخضع الدولة لشخصية رئيسها وتصبح قراراته ، نافذة ، وتأخذ صفة القانون.
وبالمقابل كانت هناك آراء بضرورة ان تراعي الدولة حقوق الناس في التنظيم ، وفي العدل ، وفي المعتقد ، مقابل كل ذلك كان الحكام يخلطون بين هذه الرؤى فطوال هذه الفترة المعنية ، شهدت السياسة فترات كان الحكم فيها متسامحا وأخرى شديدا، ويبدو إن كل ذلك كان محركه مصالح الحكام وحلفائهم.
تطور المفاهيم تلك بعد الإحتلال الأمريكي للعراق عام 2003م
ادى الإحتلال الأمريكي ، وطبيعة الحكم ، الذي نتج بعده الى نشوء ظروف جديدة ، يمكن تلخيصها بما يلي :
1) سقوط النظام البعثي السابق وقيام نظام بديل عنه
2) إن هذا النظام البديل ضم مجموعة من الأحزاب الدينية الإسلامية من طرفيها الشيعي والسني
إضافة الى الأكراد ، وقوى أخرى قومية ، وكانت الأغلبية لأحزاب الإسلام السياسي في المناطق العربية ، والأغلبية للأحزاب القومية الكردية ، في منطقة كردستان.
3) برزت الخلافات بين الأحزاب المكونة للحكم ، تارة طائفية مذهبية ، وتارة قومية ، ولكن لم تكن هذه الخلافات ، تناحرية في الغالب. فكان كل حزب يعمل لصالح منتسبيه فقط.
4) تم إهمال الإقتصاد ، بكل فروعه ، وتم الإعتماد بالدرجة الأساس على إنتاج النفط الخام في تكوين الناتج القومي الإجمالي.
5) جرت عمليات فساد كبيرة، وسرقة منظمة للمال العام
6) إزدادت وبشكل كبير ومؤثر ، الأفكار الغيبية ، والخرافات ، وإزداد عدد المشعوذين ، ومدعي الطب لمعالجة ، امراض خرافية
7) يقابلها إنتعاش غير مسبوق للقيم العشائرية، وحلت محل الدولة ، فتنحى القضاء والقانون لصالح العشيرة.
8) ومع نهوض التيار الديمقراطي وطرحه لشعارات الدولة المدنية الديمقراطية ، قوبل هذا النهوض بأساليب مختلفة .
بالتأكيد هذه الصورة من البنى السياسية في البلد إنعكس عنها المنظومة الفكرية فيما يخص شكل الدولة اللاحق ومهامه، حيث يرى الفاسدون أن استمرار الدولة بشكلها الحالي دون تغيير ، قضية هامة لهم من شأنها إتاحة الفرص مجددا، لممارسة فسادهم ، وإثرائهم على حساب امور التنمية والتقدم ، وترى احزاب الإسلام السياسي إن مشاريعها الإسلاموية للحكم ، هي الحل ، وبذلك فإنها تمارس تعتيما إعلاميا ضد كل الأفكار المغايرة لهم، وتنسب اليهم التهم الجاهزة لغرض إبعاد التأييد عنهم، كما يدعو مؤيدو العشائر وقوانينها الى اكسابها الشرعية من خلال التشريعات والدستور ، في حين يرى التيار المدني ، ان الدولة المدنية الديمقراطية تشكل الضمان لإنتشال البلد من حالته الراهنة . وللإطلاع على محتوى الدولة المدنية الديمقراطية ، اقدم لكم رابط المقال الذي نشرته عن الدولة المدنية الديمقراطية ......
: http://www.ahewar.org/debat/show.art.asp?aid=563772