المنبرالحر

20 عاماً على رحيله .. الجواهري الغائب الحاضر / رضي السمّاك

" الشعر ديوان العرب " مقولة جرت على ألسن أجيال متعاقبة من الأدباء والمثقفين والمؤرخين العرب ، بمعنى أن أشعارهم تمثل سجلاً صادقاً لأرثهم الثقافي ولتاريخهم الاجتماعي والسياسي وعلى الأخص خلال العصر "الجاهلي " الذي لم يشهد التدوين ، ثم اُطلق " الديوان " في تاريخنا الحديث على مجموعة من قصائد أي شاعر أو كل ما نظمه من شعر طوال حياته . ويمكننا القول في هذا الصدد أن قصائد الشاعر العراقي الكبير الراحل محمد مهدي الجواهري الذي تمر اليوم الذكرى العشرون لوفاته هي بوجه من الوجوه أصدق ديوان شعري لتاريخ العراق على امتداد القرن العشرين تقريباً حيث كانت قصائده ، وعلى الأخص السياسية منها ، شاهدةً على هذا القرن الحافل بالاحداث الكبرى لبلاده فضلاً عن العالم ، هو الذي وُلد في مدينة النجف الأشرف مطلع القرن العام 1901 (وقيل 1899) وتُوفي خلال عهد الدكتاتور المقبور صدام حُسين في منفاه بدمشق في أواخر القرن العام 1997 ودُفن في إحدى مقابر السيدة زينب .
وإذا كان الشئ بالشئ يُذكر فإنه ستمر بعد شهور قليلة الذكرى السبعون للهبة الجماهيرية العراقية التي شارك فيها مختلف فئات وطوائف الشعب العراقي ضد معاهدة بورتسموث الإنجليزية - العراقية التي وُقعت في يناير / كانون الثاني 1948 خلال العهد الملكي العراقي على البارجة البريطانية " فكتوريا " الراسية عند ميناء بورتسموث ببريطانيا ، وهي المعاهدة التي تجبر العراق بأن يسخّر أراضيه ويقدم كل الامتيازات والتسهيلات المنصوص عليها في المعاهدة ذاتها تحت خدمة القوات البريطانية في أي حرب تخوضها في الشرق الأوسط ، وقد وقعها عن الجانب العراقي رئيس الوزراء صالح جبر ، الأمر الذي أثار عاصفة من الاحتجاجات الشعبية العارمة فيما عُرفت لاحقاً ب " هبة كانون الثاني " ، ورغم سلميتها إلا ان السلطات العراقية لجأت إلى إخمادها بالرصاص الحي ببغداد في يوم 27 يناير / كانون الثاني 1948 والذي مزّق صدور المتظاهرين العُزّل ، وكان من بينهم الشهيد الشاب جعفر شقيق الشاعر الجواهري والذي كان يوم تشييعه ،كما أجمع المؤرخون العراقيون ، يوماً مشهوداً غير مسبوق في تاريخ بغداد الحديث احتجاجاً وحِداداً على الدماء المسفوحة التي اُريقت ، وقد رثاه شاعرنا الجواهري المفجوع بقتله ظلماً بقصيدة عصماء عُدت من عيون أشعاره تحت عنوان " أخي جعفر " وكان قد ألقاها في مثل هذا اليوم 14 فبراير / شباط من نفس العام في جامع "الحيدر خانة " ببغداد وسط حشد جماهيري كبير من مختلف فئات الشعب ، وفيها يقول :
أتعلمُ أم أنت لا تعلمُ
بأن جراحَ الضحايا فمُ
فمٌ ليس كالمدّعي قولةً
يصيحُ على المُدقعين الجياع
أريقوا دماءكمُ تُطعموا
ويهتفُ بالنفر المُهطِعين
أهينوا لئامكمُ تُكرموا
أتعلمُ أنّ جراح الشهيد
تظلُ عن الثأثر تستفهم
لكن ثمة قصائد عديدة اخرى تعُبّر عن صدق مشاعره الجيّاشة تجاه أحداث العراق الجسام كان شاهداً عليها وألقاها في مناسبات وطنية تاريخية وسياسية اخرى علماً بأن الجواهري قد عاصر أحداث ثورة العشرين الوطنية الكبرى ضد الغزو الانجليزي للعراق وهو عشريني العمر وبخاصة إن مدينته النجف كانت المعقل الرئيسي لتلك الثورة ، ونظِم في ذلك طائفة من قصائده الأولى . والجواهري الذي يُعد واحداً من عمالقة شعراء القرن العشرين العرب عاصر أيضاً في شبابه اليافع الشاعرين المصريين الكبيرين أحمد شوقي أمير الشعراء وحافظ إبراهيم ، وقد خص كلاً منهما على حدة بقصيدة رثاه بها غداة وفاتهما العام 1932، ويمكن القول أيضاًان شاعرنا وبما راكمه بعدئذ من درر من قصائد إبداعية حتى مطلع النصف الثاني من القرن العشرين قد ورث عن حق وجدارة واستحقاق إمارة الشعر العربي بعد رحيل شوقي ، وظل بلا منازع متربعاً على هذا العرش بين شعراء الشعر التقليدي أو قصيدة القافية حتى مماته ، ورغم مرور عشرين عاماً على هذا الرحيل إلا ان شاعرنا أبا فرات مازال حاضراً بطيفه وفكره وقصائده العظيمة الخالدة التي مازالت حية لم تمت في تعبيرها بقوة مضامينها عن حال العراق والعرب اليوم كما الأمس .
والحال إن الجواهري لم يكن بأشعاره شاهداً على أحداث القرن العشرين لبلاده فحسب ، بل وكان واحداً من أبرز فحول الشعراء العرب النادرين في تاريخنا العربي الحديث تحلياً عن التعصب القومي ، حيث لم تجعل منه فصاحته وبراعته المُدهشة في امتلاك ناصية اللغة العربية الفصحى - بكل خواصها وأسرارها البلاغية - بأن يكون شوفينياً أونرجسيا للغته أو لبني قومه العرب فقد كانت قصائده -كما أفكاره - تعكس ضمير ونبض الشعب العراقي بمختلف مكوناته ، وهو الذي اشتهر بقلنسوته التي نُقش عليها إسم "كردستان " لمحبته العميقة لهذا المكون الإثني وتعاطفه معه لما مر به من محن واقصاء وتهميش مع سائر المكونات العراقية في عصور الدكتاتورية ولاسيما العصر الصدامي وإن بدرجات متقاوتة . وكان الجواهري صدى الضمير النظيف الحي للشعب العراقي في مخاضه المؤلم نحو الانعتاق الشامل سياسياً وحضارياً من الاستعمار "الكولونيالي " وفي انحيازه لكل قضايا شعبه بمختلف دياناته وطوائفه وأقلياته ضد الأنظمة الاستبدادية المتعاقبة أوما اصطلح بعض المفكرين العرب على تسميتها ب " الاستعمار الداخلي .
ومن أسفٍ إن قامة شاعرية عربية كبرى بحجم الجواهري ملأ الدنيا وشغل العالم ورغم أنه معروف لدى أوساط النخبتين السياسية والادبية في عالمنا العربي إلا أنه مازال مُغيّباً مُجّهلاً في مناهج التعليم ومعظم وسائل الإعلام العربية ، أقول ذلك ولا أعلم حقيقةً عما إذا رُد الاعتبار إليه بعد سقوط الطاغية في مختلف مراحل التعليم العام وصولاً الى التعليم العالي .