المنبرالحر

مدينتي الصويرة بين هذه الأيام ونهاية أربعينات القرن الماضي / محمد النهر

تظاهر أبناء مدينة الصويرة يوم 12/8 ، وللدقة فإنهم اضطروا إلى التظاهر بعد أن استخدموا مختلف السبل لإيصال أصواتهم التي بحت من كثرة المطالبة والحديث عن موضوع مجاري الصويرة والتبليط بالتحديد وتردي الخدمات بشكل عام ، وفي نفس الفترة جمعوا آلاف التواقيع للتأكيد بأن مدينتهم منكوبة ونظموا الوفود إلى المسؤولين كما امتلأت مواقع التواصل الإجتماعي بما فاضت به مشاعر الناس ومعاناتهم من واقع تردي الخدمات وعدم معالجة المجاري والتبليط وهي حالة استثنائية تنفرد بها مدينة الصويرة ، إضافة إلى مشاركتها جميع مدن العراق بتردي الخدمات الأخرى وخاصة الكهرباء .
وسبب تفرد مدينة الصويرة بمعاناتها من المجاري والتبليط هو إن مشروع المجاري للمدينة والذي تنفذه شركة صينية والذي استبشر وآمل الناس خبرا به ، تحول مع الأسف إلى مأساة تفوق الوصف ، فقد أنجزت الشركة تقريبا 60% من عملها وبسبب الأزمة المالية اوقف الدفع المالي للشركة من قبل الحكومة مما أدى إلى أن تترك الشركة العمل وتغادر العراق تاركة المدينة وكأنها حفريات للتنقيب عن المعادن ، فلم تسوي وتبلط المناطق المنجزة وبقيت هذه المناطق الغير منجزة حفريات بدون أن تردم أو تسوى ، ولهذا ترى المدينة تغرق عند كل هطول للأمطار ومن ثم تتحول معظم شوارع المدينة إلى مزيج من الطين والمياه ، ولاتنتهي مأساة المدينة وأهاليها عند هذا الحد فالمأساة مركبة ، فهذه الأوحال عندما تجف وتضربها أشعة الشمس وسير المركبات فوقها تتحول إلى أرض متموجة بالإضافة إلى وجود الحفر في كل مكان ، أما في الصيف فإنها تتحول إلى مصدر للأتربة التي تحجب النظر سواء للناس أو المركبات ، ولهذا طفح كيل الأهالي مما دفعهم إلى التظاهر والتهديد بالتصعيد في المستقبل إذا لم توضع حلول لهذه الحالة المأساوية .
كلما أخرج من البيت اصطدم بحال المدينة هذا وتأخذني الذكريات إلى نهاية الأربعينات في القرن الماضي ، كنت طالبا في المدرسة الإبتدائية الأولى للبنين في الصويرة وكان طريقنا إلى المدرسة من خلال الشارع الرئيسي في المدينة ، والصويرة في وقتها مدينة صغيرة لا جديد فيها ، وفجأة انقلب الأمر حيث وصلت آليات كثيرة ومتنوعة لم نشاهد مثلها من قبل ، كما تم تفريغ مواد كثيرة علمنا فيما بعد ان لها علاقة بتبليط الشارع الرئيسي ، ورافق ذلك وصول العديد من العمال الأشداء تتناسب أجسامهم الضخمة مع صعوبة مهنة التبليط يدويا في ذلك الوقت . وقد استقبلت المدينة كل ذلك بحماس واعتبروا من وصل بمثابة الضيوف ، ولحماسنا نحن الأطفال ونحن نشاهد هذا العمل يوميا بان حفطنا اسم كل عامل ومهنته .
بدأوا بعمل (كورتين) لإذابة الزفت والقير ، ورصفوا الطريق بعد تعديله وحدله بالحادلة بالطابوق ياليد طابوقة بعد طابوقة ثم جرى حدلها ومن ثم فرشها بالزفت وفرثها بالقير بواسطة (الشيبك) ويجري نقل القير من (الكورة) بأواني على رؤوس العمال . كان عملا متفانيا ولا يقبل الخطأ محاطا بتعاطف واعجاب أهالي المدينة .
وفي نفس سنوات نهاية الأربعينات شهدت المدينة حدثا مهما آخر وهو إنجاز مشروع إسالة ماء الصويرة ، وقد تم إنجاز هذا المشروع بالعمل اليدوي أيضا ، حيث جرى نصب الخزان الأرضي المخصص لتصفية الماء وكذلك الخزان العلوي لضخ الماء إلى المدينة ، وقد أنجز هذا العمل مجموعة من العمال الأشداء من بغداد حيث يرفعون صفائح الحديد (البليت)بواسطة حبال قوية وبكرات ، كما تم حفر أماكن أنابيب الماء وإيصالها إلى البيوت بواسطة الأيدي أيضا .
كل هذا جرى والعالم خرج للتو من الحرب العالمية الثانية وما خلفته من خراب ودمار وأزمات اقتصادية وتقطع التجارة الدولية . وكان العراق في وقتها بلدا زراعيا وحصته من واردات النفط لا تتعدى الثلث والباقي يذهب لشركات النفط الأجنبية ، وكانت يد بريطانيا طويلة في العراق ، ومع كل ذلك شهدت الصويرة كغيرها من المدن العراقية هذه المشاريع الصغيرة ولكنها مهمة في حياتها . فهل يعقل إن الصويرة الآن وفي القرن الحادي والعشرين بدون مجاري وتبليط لمدة سنتين ؟