المنبرالحر

من فضلكم يا سادة.. دقيقة من وقتكم / ناصر حسين

في الشهر العاشر من عام 1959 اطلقت النار في شارع الرشيد، في منطقة راس القرية على السيارة التي تقل رئيس الوزراء الزعيم عبد الكريم قاسم. وكان ذلك حوالي الساعة الخامسة عصرا. وفي الساعة الثامنة مساء صدر بيان مقتضب من الحاكم العسكري العام وكان آنذاك رئيس الاركان اللواء احمد صالح العبدي الذي ورد فيه التأكيد على نجاة الزعيم من محاولة الاغتيال تلك وانه اصيب في الحادث اصابة بسيطة وقد ادخل للمستشفى ودعا الجمهور الذي نزل الى الشارع غاضبا ساخطا على المحاولة ومرتكبيها بحيث شلت تماما اية محاولة من جانب المتآمرين لاستثمار العملية والقفز الى السلطة، دعا الجمهور الى التزام السكينة وقرر منع التجول في بغداد حتى الصباح.
وبعد بضعة اسابيع غادر الزعيم المستشفى واقيمت الافراح والمسرات في بغداد احتفالا بمغادرة الزعيم للمستشفى وكان ذلك اليوم يوم عرس حقيقي في بغداد. لقد نزل الجمهور الى الشارع منذ الصباح وحتى المساء.
في ذلك اليوم حضر الزعيم الإندونيسي احمد سوكارنو لمشاركتنا في احتفالاتنا تلك اذ مثلت نجاة الزعيم نجاة للجمهورية وللثورة من مخططات المستعمرين التآمرية.
وحوالي الساعة الثامنة مساء، وكنت اقف حينها قبالة منصة التحية في واجهة وزارة الدفاع، صعد الى المنصة الزعيمان الإندونيسي والعراقي فاستقبلهما الجمهور بعاصفة من التصفيق ودوى الهتاف الجماهيري
((سوكارنو بهذا البلد... سلم و صداقة للابد)) .
((سوكارنو بهذا البلد..... سلم و صداقة للابد)) .
اجل هكذا اردنا نحن الشيوعيين العراقيين عراقنا الحبيب دولة مسالمة تحترم جيرانها وتتعايش معهم بوئام وسلام مثلما كنا نطمح ان يكونوا هم كذلك.
دولة تساهم مع باقي دول العالم في صيانة السلم العالمي الذي لم يمر غير اربع عشرة سنة على خروج العالم من الحرب العالمية المهلكة التي زج البشرية بها النظام النازي في المانيا الذي كان على رأسه هتلر.
دولة تسعى من اجل صيانة السلم الاجتماعي فتحقيق ذلك في البلد هو الطريق لسير العراق على سكة التقدم الحضاري واللحاق بركب البشرية الذي سبقنا في سيره، وتحقيق العدالة الاجتماعية.
دولة تمد يد الصداقة للجميع دونما تمييز وتريد من الجميع ان يمدوا لها يد الصداقة لا يد الغدر والطمع في ارضنا وثرواتنا.
هكذا اردنا العراق وهكذا هتفنا ذلك المساء مخاطبين الصديق العزيز سوكارنو وهو يقف قبالتنا على منصة التحية والى جواره يقف الزعيم الشهيد عبد الكريم قاسم هذه كانت ارادتنا نحن، ارادة الشعب العراقي. ولكن كانت في مقابل ذلك ارادة الامبريالية الدولية التي ناصبت العراق العداء منذ صبيحة الرابع عشر من تموز 1958 الم ينزلوا قواتهم المسلحة في لبنان والاردن – الامريكية في لبنان، والبريطانية في الاردن – بهدف الزحف على بغداد واحتلالها واسقاط حكومة الثورة وكما كانوا يرددون في صحافتهم ((اعادة الحصان الجامح الى الحظيرة))؟ وقد اسقط في يدهم وشلّ تحركهم ذاك نتيجة الدعم الدولي للثورة وموقف الاتحاد السوفياتي الصديق منها واتذكر كيف حولوا كما كانت تذكر وكالات الانباء الدولية حدود الاتحاد السوفياتي مع تركيا الى نهار من خلال المناورات العسكرية التي بدؤوها وعلى عجل على حدود تركيا العضو في حلف المعاهدة المركزية – حلف بغداد – الذي اعلن العراق انسحابه منه خلال ايام من قيام الثورة، وهنا تحولوا الى التآمر. وقد وجدوا بين صفوف العراقيين من حولوا انفسهم الى مطايا لذلك التآمر الخسيس على الثورة والشعب.
ومازلت اذكر جيدا ما ورد في البيان الذي اصدره الحزب الشيوعي العراقي بعد مرور عام واحد على وقوع انقلاب شباط الاسود عام 1963 من ان ((القيادة القطرية لحزب البعث العراقي وضعت نفسها في خدمة التآمر الامبريالي على الثورة والشعب)). ومازلت اذكر جيدا ان علي صالح السعدي امين سر تلك القيادة القطرية والذي اصبح نائبا لرئيس الوزراء في التعديل الوزاري الذي اجراه البعث على حكومة احمد حسن البكر والذي استهدف اخراج الوزراء ممثلي القوة القومية التي استدرجها البعث الى الاشتراك معه في نشاطاته التآمرية على ثورة تموز ومشاركته في انقلابهم الاسود في الثامن من شباط 1963، علي صالح السعدي وكما اعلن الرئيس المصري الراحل جمال عبد الناصر توجه بعد سنين الى القاهرة وقابل الرئيس المصري وقال في تلك المقابلة ((لقد وصل البعث الى السلطة مرتين، مرة بقطار بريطاني ومرة بقطار امريكي)). لقد وقفوا بوجه الثورة، تآمروا مع الاجانب عليها كل هذا يقف امام انظارنا نحن الشيوعيين العراقيين، ولذا نسعى دائما لوضع السد امام هكذا نشاطات. والسد في اللحظة الحاضرة هو تشييد اركان الدولة المدنية الديمقراطية.
نعم، هكذا نريد العراق دولة مدنية، نظام حكم ديمقراطي. عراق موحد في دولة اتحادية والسعي الجاد لتحقيق العدالة الاجتماعية التي توظف فيها الثروات لتقليص الفروقات بين عيشة بني البشر وتطوير البنى التحتية لضمان ازدهار اقتصادي حقيقي في العراق لا ان تدخل جيوب سراق المال العام ممن البسوا تآمرهم حتى ثياب الدين ورفعوا شعارهم السيئ الصيت ((يا اعداء الشيوعية اتحدوا)) واتذكر ان الشاعر الراحل محمد مهدي الجواهري وصف تلك الحالة بأبيات من قصيدته المعروفة ((امين لا تغضب)) .
(( وخطت الله على صدرها وخوضت بالدم حتى الحزام ))
وقال مخاطبا رئيس جمهوريتهم الذي تحول بقدرة قادر من عقيد الى مشير:
(( يا عبد حرب وعدو السلام يا خزي من زكى وصلى وصام))
(( يا ابن الخنا ان دماء الكرام نار تلظي في عروق اللئام ))
وتنبأ لهم بمصيرهم الاسود الذي ينتظرهم:
(( امين لا تغضب فيوم اللئام آت وانف شامت في الرغام ))
(( امين خل الدم ينزف دما ودع ضراما ينبثق عن ضرام ))
وكما ورد في الدستور: ((العراق دولة برلمانية، ديمقراطية، تعددية، اتحادية، يجري فيها التداول السلمي للسلطة من خلال صناديق الاقتراع في الانتخابات البرلمانية التي تجرى كل اربع سنوات)).
وعندما يكون تطلعنا للمستقبل ضمن هذا المنظار، لا نغمض اعيننا عن الاجندات الاخرى التي تكون نتيجتها اذا ما قدر لها ان تكون هي المهيمنة في الساحة السياسية والسائدة، تدمير العراق. ونجد من واجبنا ومسؤوليتنا تجاه شعبنا ومستقبله تبصير العراقيين بخطورة هكذا اجندات ودعوتهم الى الوقوف سدا منيعا بوجهها فقد كنا دائما حزب الامل والعمل وكنا دائما نرى بصيص الضوء في نهاية النفق. وعندما نكون متفائلين فلثقتنا بوعي شعبنا وحرصه على سلامة بلدة ووحدته الوطنية واصراره على ان لا مكان بين صفوفنا لمنفذي الاجندات الاجنبية ومعلوم للجميع ماذا فعل العراقيون بمنفذي الاجندات الاجنبية صبيحة الرابع عشر من تموز 1958م .