المنبرالحر

في أطروحة جامعية مير بصري .. سيرة وتراث / عدنان منشد

كان كارل ماركس، قد حسم الامر في تمييزه بين اليهودي التائه بين الاوطان، او ما يعرف بـ (الطوجيتو) واليهودي الآخر المقيم المستقيم في بلده، الذي لا يغالي ولا يساوم حول مسقط رأسه، حتى وان انشقت به الارض وابتلعته في المهاوي.
جاء ذلك في خطاب ماركس الشهير حول (المسالة اليهودية) ضمن ارهاصاته الفكرية والفلسفية قبل اكثر من عقدين من بيان ثيودور هرتزل حول مشروع تأسيس الدولة اليهودية الصهيونية في فلسطين في نهايات القرن التاسع عشر، وكأن ماركس قد تنبأ منذ البدء بان الدولة القادمة ستكون عنصرية بحق الاديان السماوية الاخرى. بل ان اعلام كبار من اليهود امثال سيغموند فرويد والبيرت انشتاين ، ساروا على خطى كارل ماركس، بالرغم من اختلافهما معه في التاريخ والديالكتيك والاجتماع والاقتصاد. فالاول كتب "موسى والتوحيد" مبينا ان موسى كان نبيا مصريا لا علاقة له بالمرة بانبياء اسرائيل المتعددين الكثار، كما جاء في التوراة او اصحاحتها او اسفارها الاخرى المزيفة التي تعرف بـ التلمود، وهي الاكذوبة الكبرى التي ابتدعها يهود بابل بعد سبي اورشليم قبل التاريخ الميلادي المعروف، اما اينشتاين فقد رفض باصرار تسنم رئاسة دولة اسرائيل، مكتفيا بامجاده الكبرى في الفلك والرياضيات والفيزياء وجائزة نوبل.
اسوق هذا المدخل الاشكالي المتشابك قبل قراءة الرسالة الاكاديمية حول شخصية الباحث والاديب اليهودي العراقي المعروف مير بصري للباحثة فاتن محيي محسن في كتابها الموسوم "مير بصري.. سيرة وتراث" تحت اشراف د. انعام مهدي علي السلمان وتقديم د. صادق حسن السوداني.
تضمن كتاب الباحثة عتبات نصية اولى تسعى الى تجريد رسالتها من عنعنات الدرس الاكاديمي التقليدي الحافل بالمفردات او الكليشيهات السائدة في محافل الدراسات العليا، مثل (مقدمة البحث/ اهداف البحث/ عينات البحث/ نتائج البحث ..) فكانت عتبة العنوان الرئيس للكتاب في سيرة مير بصري وتراثه تمثل الثريا الاولى لمتنه. وكان (الاهداء والفهرست) والمقدمات الثلاث الاولى في تعريف او تقديم هذا الكتاب، فضلا عن خطاب (الشكر والتقدير) في النهاية، تمثل اغلفة او اقمطة المتن الاولية لفصوله الثلاثة المقبلة قبل خاتمته وملاحقه او مصادره ومراجعة، وهي طريقة البحث الحديثة التي دعا اليها المفكر الفرنسي جيرار جينيت في كتابة المعروف "جامع النص" التي نطمح من خلالها إلى ان تكون مهادا او حرثا مستحدثا لأي اطروحة اكاديمية قادمة او اي متن قرائي جديد.
ونعود الى متن هذا الكتاب المكتنز بسير مير بصري ومسيرته لنجد ان فصله الاول حافل بحياة بصري الشخصية في العراق خلال الاعوام 1911- 1974 والقاء الضوء على نسبه واسرته وانتمائه الطائفي ودراسته ومنابع تكوينه الفكري، مع ملامح شخصيته الادبية والفكرية والنقدية، ثم سفره الاضطراري الى لندن عام 1974 بسبب مضايقات سلطة البعث، ثم رحيله الابدي في العاصمة المذكورة عام 2006. وفي هذا الفصل ايضا تتضح جوانب اجتماعية وثقفافية عن اهم واقرب اصدقائه في العراق، امثال سالم الآلوسي، جلال الحنفي، الاب انستاس الكرملي، مصطفى جواد، عبد العزيز الدوري، انور شاؤول، حافظ جميل، زهير احمد القيسي وآخرين.
وحول نشاط مير بصري الاداري والاقتصادي وموقفه تجاه بعض القضايا الوطنية والقومية فضلا عن نشاطه الثقافي العام الذي تضمنه الفصلان الثاني والثالث وهما في تقديري الاهم والاكثر اثارة في محتويات الكتاب، خصوصا في الاحداث الدراماتيكية المرعبة لاحداث (فرهود اليهود) او اقامة الكيان الصهيوني عام 1948 ثم مشروع اسقاط الجنسية العراقية عن يهود العراق وهجرتهم عام 1952. مع القضية الغامضة في اعدام التاجر اليهودي شفيق عدس عام 1948، فضلا عن معاناة اليهود العراقيين المتبقين في الوطن اثر ثورة 14 تموز 1958، او بعد حكم العارفين الشقيقين (عبد السلام وعبد الرحمن عارف) خلال الاعوام (63- 1968) وما تبعها من احداث في اعدام بعض اليهود العراقيين عام 1969.
ومع ذلك لم تهتز وطنية مير بصري في حب العراق ولم ترتعد فرائصه في مواجهة حكومة البعث الدموية، خصوصا بعدما اصبح زعيما للطائفة الموسوية في العراق خلال الاعوام (71- 1974) حينما قدم مذكرته الاحتجاجية حول يهود العراق الى رئيس الجمهورية احمد حسن البكر وقتذاك، داعيا فيها الى الافراج عن كافة اليهود العراقيين المحجوزين في دائرة الامن العامة، ضمن مرحلة من ادق واصعب المراحل الوطنية في هذا الوطن.
وحول النشاط الفكري والثقافي لمير بصري الذي عرف عنه كشاعر وقاص وباحث ومؤرخ، فقد طرح العديد من المؤلفات المنشورة منذ عام 1928 وحتى عام وفاته، منها: (مباحث في الاقتصاد العراقي، قصص وصور قلمية) بالاضافة الى سلسلة الاعلام المتعددة في العراق الحديث، امثال (اعلام اليقظة الفكرية، اعلام اليهود، اعلام السياسة، اعلام الكرد والقومية الكردية، اعلام الادب، اعلام التركمان والادب التركي، اعلام الوطنية والقومية العربية ..) فضلا عن آخر كتابين اصدرهما في لندن "ذكريات وخواطر" و "رحلة العمر من ضفاف دجلة الى وادي التايمز" انها في الحق سلسلة مكتنزة من الكتب او المتون التاريخية والمعرفية العابرة لسقم الطوائف والمنددة بالصوت الاحادي المنفرد السقيم التي كتبت بقلم سيال وعبارة بليغة شيقة. ولعل من حسنات الباحثة في هذا الكتاب ان تضع بعض الشذرات البراقة في سيرة ومسيرة مير بصري الطويلة في العراق ولندن، ومنها اجابته حين سئل عن سبب بقائه في العراق وعدم هجرته الى اسرائيل بقوله: " لم اهاجر الى اسرائيل مع من هاجر لانني كنت اشعر انني يهودي الدين، عراقي الوطن، عربي الثقافة". ولانه وطني اصيل ومحبوب ومحترم من كافة الاديان والطوائف العراقية فقد واساه كليدار الحضرة الحيدرية عندما جرفت مقبرة اليهود في بغداد اواخر خمسينات القرن الماضي قائلاً: " اذا ضاقت بكم الارض لدفن موتاكم، فانا على استعداد للوساطة في منحكم جانبا من (وادي السلام) ليرقد فيه ابناء طائفتكم".
ولعل آخر الشذرات في متن هذا الكتاب مقابلة الروائية والاعلامية العراقية انعام كجه جي له، حينما كان يحمل بيده (المهفة) المصنوعة من سعف نخيل العراق في منتصف السبعينات. إذ تقول الكاتبة: " .. ما زلت على قناعة انه كان يحملها ليشم من خلالها رائحة العراق، فطقس لندن لا اجده يحتاج الى استخدام المهفة".
رحلة طويلة ومعقدة عاشها مير بصري في وطنه ومغتربه، بعد خلو العراق من ابناء جلدته. ولعل تأليف هذا الكتاب يعد ضربا من الوفاء والتقدير المتأخر من جيل عاش ثقل الدعاية والكراهية لطائفة عراقية صميمة لاسباب اجتماعية وسياسية شتى.