المنبرالحر

من بغداد إلى الخرطوم.. رجال خلدهم التأريخ / ناصر حسين

نهاية عام 1947 وبداية عام 1948 كانت تدور بين حكام بغداد والحكومة البريطانية مباحثات من اجل الوصول الى معاهدة جديدة بديلاً عن معاهدة عام 1930 التي كانت تقترب من نهايتها وكانت المفاوضات تدور في ميناء بورتسموث البريطاني.
وفي بغداد هب الشعب مندداً بحكام بغداد وبالمعاهدة الجديدة. تظاهرة اثر اخرى في الرصافة، في الكرخ. في الكليات وفي الشوارع. وكان الشهداء يتساقطون الواحد بعد الاخر. شمران علوان، قيس الالوسي، جعفر الجواهري، بهيجة. وبالرغم من كل ذلك الافراط في القسوة والعنف من جانب البوليس، كانت التظاهرات تنطلق ويتسع تعدادها وعدد المشاركين فيها. آنذاك كان الوصي على العرش، المقبور عبد الاله، يعقد المؤتمر تلو الاخر مرة في البلاط ومرة في القصر الملكي. وفيها جميعاً كان يسمع من الفقيد كامل الجادرجي والفقيد محمد مهدي كبة رأيهما القاطع بأن المسؤول الاول عما يجري هو سياسة السلطة المعادية للحريات الديمقراطية وتعامل السلطة مع الشعب بالرصاص والقمع البوليسي والمعتقلات والسجون.
27 كانون الثاني من العام 1948 كان يوماً متميزاً في المجابهة بين الجمهور الأعزل من السلاح، وكان سلاحه الوحيد هو الإيمان بعدالة قضيته، وبين البوليس الذي وضع الرشاشات في جانب المساجد التي تحيط بجسر الشهداء سواء كان من جانب الرصافة او من جانب الكرخ وارتكبوا اكبر مجزرة بحق الجمهور الذي يحاول عبور الجسر من جانب الكرخ الى جانب الرصافة. وبالرغم من المجزرة وبالرغم من كل الرصاص المنهمر من الرشاشات المنصوبة على رؤوس منائر المساجد عبر الجمهور الجسر والتحمت تظاهرة الكرخ مع تظاهرة الرصافة تشكل اكبر تظاهرة في ايام الوثبة. وكانت مطالبهم واضحة:
اقالة حكومة صالح جبر، والغاء معاهدة بورتسموث.
فكر عبد الاله باللجوء الى الجيش من اجل السيطرة على الاوضاع وقمع تظاهرات الشعب فاستدعى رئيس الاركان وكان آنذاك ((صالح صائب الجبوري)) الذي قدم النصح الى عبد الاله بتجنب اللجوء الى هذا الحل والتصالح مع الشعب وتلبية مطاليبه، فاسقط في يد عبد الاله واضطر الى الغاء المعاهدة واقالة حكومة صالح جبر وتكليف السيد محمد الصدر بتشكيل حكومة تهدئة فانسحب الجمهور من الشارع بعد ان تحققت مطالبه الاساسية آنذاك ((إقالة حكومة صالح جبر والغاء معاهدة بورتسموث)).
اما السودان فكان يحكمه آنذاك دكتاتور اهوج هو الجنرال ابراهيم عبود الذي استغل منصبه عام 1958 كرئيس للأركان واطاح بالحكومة المدنية القائمة ونصب نفسه رئيساً لدولة السودان التي لم يمر على نيلها الاستقلال غير عامين فقط.
اواخر عام 1964 وصلت العلاقة بين الشعب وحكومة ابراهيم عبود الى طريق مسدود ولم يعد مقبولاً من جانب الشعب بقاء الدكتاتور ابراهيم عبود رئيساً لجمهورية السودان فبدأ بالتظاهر مطالباً ابراهيم عبود بالرحيل.
آنذاك كنت سجيناً في سجن الرمادي ولدي راديو صغير اتابع من خلاله ما يدور من احداث واعد نشرة اخبارية لاطلاع الرفاق الموجودين في القلعة وفيما بعد في المحجر.
تابعت حينها الاخبار عما يدور في السودان اولاً بأول. وكان مسك الختام نزول اكبر تظاهرة تشهدها العاصمة السودانية وقد سار امام المتظاهرين المدعي العام السوداني القاضي سر الختم خليفة.
ابراهيم عبود كان قد التجأ الى الجيش وانزله الى الشارع لحماية كرسيه الذي يهتز تحته.
قرب القصر الجمهوري كانت القوات قد احاطت بالقصر لحماية سلطة الدكتاتور ابراهيم عبود.
تقدم سر الختم خليفة الى ضابط الجيش الذي كان يقف امام القوات ودار بينهما الحوار التالي وكما سمعته حينئذ من الاذاعات وسجلته على الورق:
- أتعرف ايها الضابط ان مهمة الجيش هي الدفاع عن الوطن من العدوان الخارجي؟
- اجابه الضابط نعم.
- أتعرف ايها الضابط ان انزال الجيش الى الشارع يتم بقرار تحريري موقع من المدعي العام؟
- اجابه نعم
- اتعرف ايها الضابط ان من يكلمك الان هو المدعي العام نفسه؟
- اجاب نعم.
عندئذ قال المدعي العام سر الختم خليفة للضابط وبصيغة الأمر:
((بصفتي المدعي العام أأمرك بسحب القوات واعادتها الى معسكراتها)) نفذ الضابط امر المدعي العام وسحب القوات من الشوارع واعادها الى معسكراتها فبقي ابراهيم عبود وحيداً فريداً داخل القصر الجمهوري الذي تحيط به الجماهير من كل جانب فاضطر الى الاستقالة والذهاب الى مزبلة التاريخ ولتصبح سلطته وادارته السيئة للسلطة في خبر كان.
أتذكر ان الاستاذ سر الختم خليفة بعد ان اطيح بالجنرال ابراهيم عبود استلم منصب رئيس الوزراء في السودان.
يتجاهلون تجارب الآخرين وينسون ان عمر الكذب قصير، وان الظلم لا يدوم فالظلم ان دام دمر. يضطهدون شعوبهم فيضطرونها للوقوف بوجههم وفي النهاية الاطاحة بهم وارسالهم الى مزبلة التاريخ.
عام 1959 بدأت في العراق حملة اغتيالات للمناضلين من اجل الديمقراطية، ومعها بدأت حملة لفصل انصار الديمقراطية من وظائفهم. فكانت قصيدة الشاعر زاهد محمد الذي فصل من وظيفته في السكك:
((تهيب يالتهز السوط واحذر غضبة المظلوم))
التي القاها في احتفال اقامه اتحاد النقابات وحضره الزعيم الشهيد عبد الكريم قاسم. وعندما طولب باعادة القاء هذا البيت من القصيدة اجرى تغييراً فيه فاصبح
((تهيب لا تهز السوط واحذر غضبة المظلوم))
يركبون رؤوسهم لا يسمعون نصيحة ولا يستفيدون من تحذير ويوغلون في الولوغ بدماء الناس ويحرمونها من التمتع بنعم الحرية، فتنفجر بوجوههم وتبعث بهم الى مصيرهم البائس الذي ارادوه لأنفسهم بأنفسهم فاستحقوا ما قاله شاعر الشعب محمد صالح بحر العلوم في قصيدته الرائية التي القاها في احتفال اتحاد النقابات بعيد الاول من أيار عام 1960
((طاروا سيقال عن اعقابهم ان الاواخر كالاوائل طاروا))
((فعلى الاوائل والاواخر لعنة هي للتوابع دائماً انذار))
والى مفارقة تاريخية اخرى.