المنبرالحر

.. وهل كان ماركس وانجلز عميلين للفكر العربي؟ / د. صبيح الجابر

كلنا يتذكر ذلك النقاش الحامي بين مؤيدي الاشتراكية العلمية، وبين انصار حزب البعث، ومن يدور في فلكهم من قوميين وسلفيين حول الاشتراكية العربية، والفكر المستورد، والفكر العربي الاصيل.
كانت حوارات يثيرها البعثيون مدفوعة بدوافع سياسية، سلطوية. إذ ان انصار السلطة يفرضون آراءهم سواء اقتنع بها الطرف الآخر ام لم يقتنع، وسواء أكانت آراؤهم صائبة ام خاطئة. وكل تلك الحوارات الحامية كانت تجري في الوقت الذي كانت فيه (نظرية التناص) قد اخذت مداها في الاوساط الثقافية والابداعية، سواء كانت ادبية ام فكرية وفلسفية في اوروبا في ستينيات القرن الماضي.
وكانت هذه النظرية قد حسمت الكثير من الجدل السائد حول (استيراد وتصدير الافكار) رغم ان الاستيراد والتصدير يخص البضائع التجارية، اي المادية، وليس الافكار والثقافات والايديولوجيات الانسانية التي شهدتها البشرية منذ عصورها الاولى، وصارت ملكية عامة لكل المتعاطين بها والمؤمنين بمنطلقاتها وتراثها.
فالتناص هو مفهوم يدرك عقليا، ويستفاد من دلالاته في تفسير العلاقات المتشابكة، التي تربط بين النتاجات الابداعية في مجالات المعرفة والفكر الانساني والثقافة السائدة في عصر من العصور، وما يربط بين هذا العصر والعصور السابقة او اللاحقة من علاقات ومنتجات معرفية، او فكرية، ام معالم حضارية. وبالتالي فان التناص كما يقول غراهام آلن هو: "مفهوم جوهري في النقاشات المتعلقة بالثقافة المعاصرة".
والتناص حسب اصحاب هذه النظرية يؤسس لمفاهيم الترابط والتداخل والاعتماد المتبادل في الحياة الثقافية الحديثة. ففي عصرنا الراهن، يرى هؤلاء المنظرون انه ليس من الممكن ان نتحدث عن اصالة او تفرد في العمل الفني او الثقافي سواء كان لوحة او رواية او نظرية فلسفية او فكرية. وعلى هذا الاساس لا توجد كتابة مبتكرة خالصة مائة في المائة، دون ان تكون متأثرة بغيرها، بل هي امتزاج بين (الأنا) والآخر السابق عليه، ليكون في النهاية نصا جديدا. وفي هذا السياق يقول الامام علي: "لولا ان الكلام يعاد لنفد".
ولذلك فان المخزون الثقافي للانسان بحكم المطالعة والقراءة، هو الذي يصقل موهبته، لان الانسان لا يولد شاعراً، ولا مفكراً، ولا موسيقياً. فلا شيء ادعى الى إبراز اصالة الكاتب وشخصيته كما يقول بول فاليري من ان يتغذى المبدع بآراء الآخرين، وحسب مقولته الشهيرة:"فما الليث الا مجموعة من الخراف المهضومة".
نظرية التناص اذن نظرية حديثة جمعت بين (نظرية الادب المقارن، ونظرية البنيوية التكوينية او التركيبية والاسلوبية)، واعتبرت الابداع ايا كان نوعه، فكريا او ادبيا او ثقافيا او حضاريا هو ملك للبشرية وينتقل من عصر الى آخر في الحضارة الواحدة او بين الحضارات العالمية المختلفة. وهي نظرية تهتم بالتيارات الابداعية، الفكرية والادبية والفنية، وترشحها من عصر الى آخر، ومن جيل الى آخر، ومن حضارة الى اخرى. وهي تذكرنا بنظرية ابن رشد (النحن والغير) والتزاوج بين هذين الامرين، والمقصود بهما الثقافة العربية- الاسلامية، والثقافة الاجنبية اليونانية والفارسية والهندية في ذلك العصر. هذا التزاوج هو الذي انتج لنا شيئا آخر، او نصا آخر يحمل مقومات ثقافة الداخل الـ (نحن) وثقافة الخارج (الغير). وتوضيحا لهذا الامر المهم والخطير، دعونا نستعرض نموذجين مختلفين، الاول في المتخيل الادبي والثاني في الفكر والفلسفة.
1- نموذج المتخيل الادبي:
هذا النموذج يمثله الشاعر الفيلسوف او الفيلسوف الشاعر ابو العلاء المعري من خلال "رسالة الغفران" التي تدخل ضمن (ادب الآخرة) المتخيل كما يسميه لويس عوض. وقد كتب المعري هذه الرسالة سنة 424هـ حيث كان في التاسعة والخمسين من عمره، وهو شيخ ضرير مات عن اربع وثمانين سنة.
ورسالة الغفران كانت ردا من المعري على رسالة ابن القارح الذي ولد سنة 351هـ وامتد به العمر الى 424هـ، والتي ارسلها اليه يتهمه فيها بشكل غير مباشر بالكفر والزندقة. وقد اختار المعري شخصية ابن القارح لتكون الشخصية الرئيسة في سرديته المتخيلة "رسالة الغفران" التي تدخل الى عالم الآخرة لوصف الجنة والنار. والمعري في رسالته او كتابه هذا يدخل كما قلنا عالم (أدب الآخرة)، علما ان دراسة لويس عوض هذا الكاتب الكبير لم تقتصر على رسالة الغفران بل ان رسالة الغفران قادته الى بدايات هذا الادب منذ العصور الوثنية، وصولا الى عصور الديانات السماوية. اي ان لويس عوض كان يريد ان يقول في كتيبه (على هامش الغفران) ان المعري حين كتب هذه الرسالة كان متأثرا بما سبقه من كتابات في هذا المجال، ومؤثرا ايضا في ما لحقته من كتابات اخرى تدخل في سياق (ادب الآخرة).
ففي العصور الوثنية كان الادب الاسطوري قد تناول حياة الآخرة بما فيها من نعيم وجحيم او جنة ونار بشكل تفصيلي، وقبل المعري بما يقارب ألفي عام كتبت "اوديسة" هوميروس قبل الميلاد بالف عام، ثم جاءت "الياذة" فرجيل او صاحب الرُعائيات او اشعار الرعاة، وخاصة ما يسمى بالاكلوج الرابع من الالياذة، رؤية قريبة جدا من رؤيا الجنة، ونبوءة ولادة الطفل الالهي الذي يبدأ بمولده عصر السعادة الدائمة. وبعد فرجيل يأتي اوفيد الشاعر اللاتيني (43ق.م) صاحب (الميتامورفوز) اي التحولات او الاشكاليات.
وقبل "رسالة الغفران" ظهرت "كوميديا الضفادع" (800.ق.م)، وكان مبدع هذه الكوميديا هو ارسطوفانيس. وكلها تناولت الهبوط الى العالم السفلي، والحديث عن الجنة والنار، واوصاف عالم الآخرة.. ومن الملاحظ ان الديانات الوثنية القديمة كانت تنظر الى عالم الآخرة، بما فيه من جحيم ونعيم، بانه عالم سفلي او بحر ظلمات. اما في عهد الديانات التوحيدية فكانت النظرة الى الاعلى، اي الى السماء. وكان بين المؤثرات الاخرى التي اثرت على مخيلة ابي العلاء المعري قصة "الاسراء والمعراج" ومن مصادرها الاسلامية.
اما اثر المعري في الادب فقد ظهر في اعمال عالمية في العصور اللاحقة، فقد كان اثر "رسالة الغفران" واضحا في "الكوميديا الالهية" لدانتي (او ما يسمى "جحيم دانتي") وفي عصرنا الحديث وتحديدا في ستينيات القرن الماضي ظهرت رواية "مأساة واق الواق" للشاعر والكاتب اليمني المعروف احمد محمود الزبيري، وهي اكثر تأثرا بالمعري من غيرها، واكثر وصفا وتفصيلا لحياة الآخرة وجنات النعيم.
وهكذا كان المعري متأثرا بمن سبقه ومؤثرا بمن جاء بعده.
ان ما انتجه المعري من ابداعات نثرية وشعرية متنوعة تتوزع بين الادب والفكر والفلسفة والايديولوجيا والسياسة، وقضايا الحياة والمجتمع، واللغة والدين والعالم الآخر، يدل بمجمله دلالات واضحة على ان هذا الرجل كان ذا ثقافة عميقة، قامت على تناصات متنوعة المصادر والمرجعيات اللغوية، وتتابع العصور والازمنة والامكنة والاتجاهات، وتشكلت في وعي ورؤيا رجل من خلال تراكم وتحولات نتاجات قرون سابقة لحضارات يونانية وفارسية وهندية واسلامية، ورّثت ابداعاتها الثقافية والفكرية والعلمية للمجتمعات البشرية عموما وللمهتمين بها خصوصا.
ما تقدم كان نموذجا للتأثير والتأثر، والكسب المعرفي في مجال المتخيل السردي للنثر الفني والابداع العالمي، ولا ندري في أي خانة من خانات (العمالة) نضع المعري، وهو رهين المحبسين؟! فهل نضعه في خانة العمالة للحضارة اليونانية، خاصة وانه كان يجيد اللغة اليونانية؟ ام في خانة الحضارات الفارسية والهندية او الاسلامية؟!
2- نموذج الفكر والفلسفة:
اما النموذج الثاني فهو النموذج الخاص بالفكر والفلسفة ويمثله مفكرو وفلاسفة القرن التاسع عشر في اوروبا ممن انتهجوا فلسفة الفكر المادي التاريخي والجدلي، وتحديدا ماركس وانجلز ولينين، فمن أثّر في مَنْ؟ ومن كان عميل مَنْ؟
لقد كشفت لنا دراسات الباحثين العرب المعاصرين، وفي مقدمتهم حسين مروة (في "نزعاته المادية" بمجلداته الاربعة) والطيب تيزيني في بحوثه وكتبه العديدة، خاصة كتاب "من التراث الى الثورة" الذي تجاوزت صفحاته 1000 صفحة، كشفت لنا اعتماد هؤلاء الفلاسفة - الماديين الاوروبيين على افكار ابن رشد وما في فلسفته من نزعات مادية صريحة. كذلك على ابن خلدون في مقدمته ونظريته في علم الاجتماع. فابن خلدون يقول – حسب مروة - : "من الغلط الخفي في التاريخ الذهول من تبديل الاحوال في الامم والاجيال بتبدل الاعصر ومرور الايام.. ذلك ان احوال العالم والامم وعوائدهم ونحلهم لا تدوم على وتيرة واحدة، ومنهاج مستقر، انما هو اختلاف على الايام والازمنة والانتقال من حال الى حال".
هذا يعني ان ابن خلدون كان قد ارسى قواعد الفكر الاجتماعي في القرن الرابع عشر الميلادي. وعلى خطى ابن خلدون سار المؤرخ المقريزي، وفي حدود التلمذة المبدعة كما يقول الطيب تيزيني. ولكن ما جاء به ابن خلدون وابن رشد والمقريزي وغيرهم من افكار جديدة اعتبرها السلفيون (بدعة) وان البدعة في نظر السلفيين حرام، وكل بدعة الى النار.
وفي هذا السياق يذكر الطيب تيزيني ان النظرة العلمية- الماركسية، التي بنت شخصيتها عبر جدلية مع الواقع في سياقيه التاريخي والتراثي، هي التي تؤكد بلسان لينين: "ان عقل الماركسية كله ونضالها يطالبان بان لا ينظر الى كل موضوعة الا تاريخيا والا بالارتباط مع الموضوعات الاخرى، وبالارتباط مع تجارب التاريخ الملموس". وحسب الطيب تيزيني يتعرض انجلز الى اكتشافات العرب الذاتية على صعيد العلم الطبيعي ويعتبرها اكتشافات خطيرة الى الحد الاقصى، وهو يشير، (اي انجلز) الى ان: العصر القديم انجب اقليدس والنظام الشمسي البطليموسي، وان العرب خلفوا النظام العشري وبدايات علم الجبر والارقام الحديثة، والسيمياء، بينما العصر الوسيط المسيحي لم يخلّف شيئاً.
ويشير انجلز الى شاهد آخر عميق الدلالة على صعيدي الفكر الماركسي والفكر العربي القروسطي. ففي مكتبة المتحف البريطاني كتاب في "الاموال" لمؤلف عربي في منتصف القرن الرابع الهجري يسمى (ابو عبيد الله) ترجمه احد المستشرقين واطلع عليه ماركس وقرأه، وعلّق على هوامشه بخطه تعليقات تشيد بالافكار الاجتماعية التي جاءت فيه. ويروي المستشرق بولجانوف ان ماركس كان يقرأ هذا الكتاب اثناء تأليفه لكتاب "رأس المال"، وان بين ابي عبيد الله وماركس في قضية العمل وقيمته شبها كبيرا. (ذكر الطيب تيزيني هذه الشهادة في ص990).
وهناك شهادة اخرى يرويها الطيب تيزيني ايضا، تدل على علاقة الفكر الماركسي بالتراث العربي من خلال كتاب لينين وغوركي "رسائل وذكريات"، وذلك عبر رسالة بعث بها غوركي الى المفكر الروسي ف. أ. انوتشين بتاريخ 21/ 9/ 1912، وفيها يقول: "انك تنبئنا بان ابن خلدون في القرن الرابع عشر الميلادي كان اول من اظهر دور العامل الاقتصادي وعلاقات الانتاج. ان هذا النبأ كان له وقع للخبر "مثير". وقد اهتم به صديق الطرفين (لينين) اهتماما خاصا. وبهذا الصدد كتب انوتشين: "لقد اهتم لينين اهتماما شديدا بمؤلف الفيلسوف العربي ابن خلدون، الذي يتناول فيه دور العوامل الاقتصادية. وكان لينين يتساءل: ترى اليس في الشرق آخرون من امثال هذا الفيلسوف؟".
من خلال ما تقدم يتضح لنا بطلان التهمة التي كان وما زال يطلقها القوميون والسلفيون على كل من يتبنى فكرا انسانيا او علمياً او تقدميا في عصرنا الحديث، مدعين بانه يتبنى فكرا مستوردا من الغرب، ومتهمينه بالكفر والعمالة الى الاجنبي. وهؤلاء السلفيون او القوميون او المتأسلمون يشكلون امتدادا تاريخيا للعداء للعقل البشري وللفكر العلمي والواقعي. فأسلافهم هم من احرقوا كتب ابن رشد واتهموه بانه دخيل على التاريخ العربي- الاسلامي، وحاصروا كتب الفيزياء والرياضيات وعلوم الفلك ومنعوا الوراقين من استنساخها، وكفّروا المنطق والفلسفة واحرقوا كتب المعتزلة.
ان السلفيين الذين ظهروا منذ النصف الثاني للقرن الاول الهجري، ما زالوا حتى الآن يغتصبون التاريخ والتراث، ويريدون منهما ان يظلا في خدمة مصالحهم الشخصية النفعية ومصالح القوى الطبقية والسياسية والاقطاعية التي يمثلونها، ويريدون ان تبقى هذه الاخيرة الوحيدة المؤهلة للكلام باسم التراث، وتبقى القيّمة على الناس والموجهة لهم.
وبالتالي – حسب الطيب تيزيني – فان المعتزلة ومن قبلهم القدريون واهل الرأي والنظر، وكذلك المفكرون والفلاسفة الذين اتجهوا اتجاها فلسفياً واجتماعياً مادياً، مثل الفارابي وابي بكر الرازي والبيروني وجابر بن حيان وابن سينا وابن باجه وابن طفيل وابن رشد وابن خلدون والمقريزي، ان هؤلاء جميعا كانت السلفية قد اعلنتهم بانهم غرباء عن الحضارة العربية – الاسلامية، واعلانها هذا يستتبع انزال اللعنة عليهم، وانهم حفنة ضئيلة من المارقين والزنادقة، الذين لا يستحقون اكثر من النسيان والاهمال، وان الممثلين الحقيقيين للتراث العربي والجديرين بالاحترام هم الجبريون والاشاعرة، وابو حامد الغزالي وعبد الرحمن الجوزي وابن تيمية.
ومن المعروف ان هؤلاء جميعا اكدوا على عبودية الانسان ورفضوا واقع الترابط السببي في الطبيعة والمجتمع.
ويذكر حسين مروة ان راية محاربة العلوم والفلسفة والعلوم الطبيعية الاخرى وجدت من يرفعها، وقد اشتهر ابن الصلاح 643هـ بفتواه المعروفة، التي اعلن فيها تحريم الاشتغال بالمنطق والفلسفة. اما المنطق فلأنه مدخل الى الفلسفة، فهو "مدخل الشر". واما الفلسفة فلأنها حسب فتواه الشر نفسه، فهي اساس السفه والانحلال ومادة الحيرة والضلال والزيغ والزندقة. وبعد ابن الصلاح حمل راية العداء ابن تيمية (661- 729هـ).
ما تقدم من شواهد يدل على عداء للفكر والعلوم على ايدي السلفيين، وقد نجد لهم اعذارهم – وقتذاك - بسبب ظروفهم الموضوعية والذاتية وطبيعة عصرهم.. اما ان يأتي اليوم من يدعي الثقافة ويحمل ذات السلاح الذي حمله اسلافه من المتشددين، فهذه هي الطامة الكبرى.
وكلنا نعلم ان الدولة الاسلامية في العراق والشام (داعش) تحمل ذات الافكار والمنطلقات التي يحملها سلفيو الماضي والحاضر، وجاء الداعشيون بحلول استخرجوها من عمق التاريخ لحل مشكلات العصر الحديث، بل انهم استعاروا من الماضي حتى الاسماء والازياء وارتدوها في شوارع الموصل والرقة وغيرهما. وحين وضعوا هذه الامور كحلول لمشكلات الواقع، وقاموا بتطبيع الحياة اليومية في ضوئها، لاقوا استهجانا ورفضا من كل العالم على مختلف دياناته. وكان في مقدمة الرافضين لايديولوجية هذه الدولة المسخ العالم الاسلامي برمته، بل واعلن البراءة من سياسة ودين هذه الدولة الغريبة وافعالها المشينة.
وهكذا فان الافكار التي اطلع عليها ماركس وانجلز ولينين كان من بينها ومن اهمها الافكار العربية، وقد استفادوا منها اية استفادة، وعظموها وبجلوها وصاغوا نظريتهم العلمية في ضوئها وفي ضوء غيرها من الافكار التي يحفل بها التراث البشري، من دون ان ينظر اليهم احد على انهم عملاء للفكر العربي او لغيره.