المنبرالحر

16 أيلول 1982... من بيروت إلى كل الوطن تحية ! / ماري ناصيف

في الخامس عشر من أيلول 1982، تأكد للجميع - بما لا يقبل مجالا للشك - ما كنا نقوله بأن القوات الصهيونية الغازية ستحاول اجتياح القسم المحاصر من بيروت... حتى البعض، الذي كان غير مقتنع بهذه المقولة، أقرّ بالواقع وعدّل في قناعاته بعد أن تأكد أن وصول بشير الجميّل إلى سدة الرئاسة وخروج المقاومة الفلسطينية وقياداتها الأساسية من بيروت غير كاف بالنسبة لشارون وبيغن وغيرهما من قيادات العدو،المصرّين على ضرورة اقتحام "الغربية".
كانت التقارير في ذلك اليوم المشهود تصل تباعا عن التحركات الميدانية للقوات الصهيونية البرية، بينما كان من بداخل بيروت يستعد للمواجهة المحتومة ولتنظيم المقاومة سياسيا وعسكريا. الاجتماعات لا تنقطع، وكذلك نقل الوثائق والمعدّات، ومراجعة التدابير والمواقع والأدوار، التي نفّذت - تقريبا - كما رسم لها، باستثناء بعض الخروق التي لم تؤثر على المسيرة، إذ سرعان ما استبدل الذين "اختفوا عن السمع" بمن ينوب عنهم ، "ومشي الحال".
عندما حل المساء، عقد اجتماع لمجموعة من القيادات الأساسية في أحد البيوت التي تشرف على مركز منطقية بيروت في كركول الدروز، حيث جرى التداول في المعطيات السياسية الجديدة، إضافة إلى بعض المعلومات الواردة من الأشرفية وبكفيا ومناطق التماس على طول حدود بيروت الغربية وضاحيتها الجنوبية التي استبسل المقاتلون الوطنيون، من شيوعيين وغيرهم، في الدفاع عنها وأوقعوا خسائر مهمة في صفوف القوات العدوة بين قتلى وجرحى، أعلن الكيان الصهيوني عن بعضهم بينما نسب سقوط البعض الآخر إلى "حوادث السير" داخل الكيان، هذه "الحوادث" التي ازدادت فجأة ما بعد 16 أيلول ولعدة أشهر متتالية...
الحركة لا تهدأ، بالاستفادة من هدوء نسبي في القصف مساء، باستثناء قذائف متفرقة تساقطت على بعض الممرات الإستراتيجية وبعض الأحياء، وبشكل خاص على مقر السفارة السوفياتية وبالقرب منها. كل واحد أو واحدة يتابع أو تتابع المهمات التنفيذية المطلوبة... حتى ساعات الفجر التي انبلجت عن تقدّم القوات المعتدية من عدة طرق رئيسية، من المرفأ وسباق الخيل وخلدة باتجاه الطريق البحرية أو عبر المطار باتجاه مخيمي صبرا وشاتيلا ومعهما حي فرحات المتاخم. آلاف الجنود يرافقهم بضعة مئات من العملاء، من جيش العميل سعد حداد، وأكثر من مئتي دبابة ومصفحة كانت تتقدم تحت غطاء ناري كثيف وتحوّل البيوت والشوارع إلى كتل من اللهيب... بينما كنت ترى، على كل زاوية تقريبا مقاتل يحمل "أر. بي. جي" أو قنابل يطلقها على العربات العدوة... ويختفي سريعا في الأزقة ومداخل الأبنية.
مئات السيارات تحترق وسط الشوارع الممتدة من وادي أبو جميل صعودا باتجاه القنطاري والصنائع ومار الياس والاستقلال، بحيث أن بعض من كان يجب أن يصل بسيارته إلى نقاط معينة اضطر إلى تركها وإكمال مسيرته سيرا على الأقدام، الأمر الذي أخّر بعض الأشخاص عن الوصول في الوقت المحدّد إلى حيث يجب أن يكونوا. هذا، في وقت حاول البعض رفع شراشف بيضاء في بعض الأمكنة القليلة، فتصدى لهم الجيران والمارّة وأفهموهم خطأ موقفهم، فتراجعوا داخل بيوتهم.
بيروت لا تستسلم، والمقاتلون المتواجدون داخلها يرفضون الانصياع للقدر، بل إنهم قرروا رفع التحدي الذي أطلقه ضدهم. بعضهم سقط شهيدا، وبعضهم أخفت القوات الغازية آثاره، أما البعض الأخير فعاد إلى مواقعه وتابع المسيرة عبر الانتظام في مجموعات جبهة المقاومة الوطنية اللبنانية التي لم تترك الكثير من الوقت للعدو كي يرتاح.
جبهة المقاومة الوطنية اللبنانية، أو جمول، تم التحضير لها يوم وصلت معلومات مؤكدة للحزب الشيوعي اللبناني بنوايا الاجتياح. كان ذلك في بدايات العام 1981. فأعلن التعبئة العامة، وفتح مراكز التدريب للمئات من المناضلات والمناضلين، في وقت كانت التقارير السياسية والبيانات تشير إلى استمرار طريق الكفاح بأشكال مختلفة، وبالتحديد المقاومة المسلحة التي بدأنا بها بعد اجتياح العام 1978 وقضم الشريط الحدودي... وأود، هنا، التذكير بتلك العمليات في مزارع شبعا وغيرها التي أعلنت بأسماء مختلفة جمعت بينها وجود كلمة "مقاومة". واسم الجبهة – للتاريخ – نوقش طويلا، وبعد أن اتفق عليه، اقترح على الرفاق أعضاء اللجنة المركزية للحزب الشيوعي اللبناني الذي انعقد في سينما المارينيان قبل بضعة أيام على تدنيس أرض عاصمتنا الأبية وبالتشاور مع بعض الأحزاب والقوى التي كانت الشريك الأساس للشيوعيين، إذ واجهوا الحصار والمهمات اللاحقة معا ويدا بيد. ومن كان في ذلك الاجتماع التاريخي يذكر جيدا كيف وقف الجميع دون استثناء مصفقين بحماسة ومؤكدين على "تحرير كل شبر من تراب الوطن".
وإذ أدخل في مثل هذه الأمور، التفصيلية بعض الشيء، فلأنني أسمع أو أقرأ بين الحين والحين أن المقاومة انطلقت عفوية وبدون تخطيط مسبق، إلى آخر المعزوفة . أنا لا أنكر أن عدد من عمليات مقاومة الاحتلال نفذت، في الأشهر والسنين التي تلت احتلال بيروت، بفعل (وفضل) شباب وفتيان متحمسين وطنيا، أو أن المقاومة توسعت بعد تحرير بيروت وقسم من الجبل لتضم أحزابا سياسية قديمة أو ناشئة. غير أن كل عمليات المقاومة في بيروت، وبدون أدنى تردد، نفذت من أبطال "جمول"، أي من الأحزاب التي أطلقت الجبهة أو التي انضوت في صفوفها منذ الأيام الأولى.
وقاومت العين المخرز رغم كل شيء...
عشية العيد الخامس والثلاثين لانطلاقة جبهة المقاومة الوطنية اللبنانية
15 أيلول / سبتمبر 2017