المنبرالحر

مائة وخمسون عاماً على نشره .. كتاب "رأس المال" لمؤلفه المفكر كارل ماركس / صديق عبد الهادي*

(1)
تمر اليوم الموافق 14ايلول 2017 الذكرى الخمسون بعد المائة لنشر كتاب المفكر كارل ماركس، الشهير والمعروف بإسم "رأس المال". تعتبره كثيرٌ من الجهات المهتمة بالفكر الإنساني، من اهم الكتب على مر التاريخ البشري. فحسب تصنيف "موقع لستميوز"، في اختياره لأميز وأهم مائة كتاب في الاقتصاد عبر التاريخ، يحتل كتاب "رأس المال" المرتبة الثانية بعد كتاب "ثروة الامم" للمفكر الاقتصادي الاسكوتلندي الكلاسيكي آدم سميث. ويتبعه في المرتبة الثالثة كتاب "النظرية العامة للعمالة، والفائدة والنقد" للمفكر الاقتصادي الانجليزي جون مينارد كينز.
بمناسبة هذه الذكرى سيحاول هذا المقال ان يلقي أولاً ضوءاً على الظروف التي كتب فيها كارل ماركس كتاب "رأس المال"، ثم ثانياً الإشارة إلى اهم الأفكار النظرية حول الاقتصاد السياسي التي انتجها ماركس، وطورها.
بدأت الكتابات المؤثرة والاكثر اهمية لماركس بعد لجوئه إلى بريطانيا واستقراره في مدينة لندن، والتي وصلها في آب من العام 1849، اي ان عمره كان وقتها واحداً وثلاثين عاماً، وذلك بعد ان ضاقت به القارة الأوروبية على اتساعها. لجأ إلى بريطانيا إثر قرار حكومي بطرده من فرنسا، ولحقت به زوجته واطفاله الثلاثة، ولتستقر العائلة في لندن.
(2)
عاش ماركس واسرته حياة بائسة في لندن، حيث أن سيرة ماركس مع الفقر سيرة فريدة في تاريخ المفكرين، وقد جرب كل السبل في مواجهة الفقر، من رهنٍ للمتعلقات الشخصية الخاصة، والاغراض الثمينة لديه ولدى زوجته. تعرض لتجارب مريرة تحت وطأة الفقر، وصلت حد فقدانه أطفاله نتيجة ذلك، إن كان بشكلٍ مباشر او غير مباشر. وكتب لصديقه انجلز عن تجربة موت احدى بناته، والتي لم يكن غير ان يتبرع أحد الاصدقاء من اللاجئين الفرنسيين بدفع مبلغ التابوت، اي جنيهين لم يكن في استطاعة ماركس توفيرها، كتب قائلاً، "مع اني امتلك من القوة ورباطة الجأش، إلا ان هذه المرة قد هزني هذا الوضع الخرب، عميقاً" (من رسالة بتاريخ 28 أبريل 1852م).
يُرجِّح كل كتَّاب سيرة ماركس على ان الأمراض التي ألمتْ به، وظل يغالبها لوقت طويل، والتي كانت سبباً مباشراً في وفاته، لها علاقة بالفقر مادياً ومعنوياً، لحدٍ كبير. وهي في مجملها، وبشكلٍ عام، حالة لا تتكرر بين المفكرين، الذين قضوا، دعك من مفكريين نوعيين من امثال كارل ماركس. وبالرغم من وقوف صديقه فردريك انجلز إلى جانبه ماداً يد العون من نواحي عديدة إلا ان معاناة ماركس مع الفقر كانت متلاحقة. وقد يكون واحداً ممنْ وصفوا وضع ماركس بدقة حينها، الكاتب الأمريكي من أصل نمساوي، "ساول بادوفر" الذي قال، "بدأ ماركس دراسته الجادة للاقتصاد في المتحف البريطاني (المكتبة البريطانية الآن)، ولكنه كان وبشكلٍ دائم تحت ضغط ضائقة البؤس، والامراض التي تلم بالعائلة، وكذلك الوضع المعيشي الذي كان على حافة الجوع. كان وضعاً مزرياً مما اضطر أنجلز لابتلاع أنفته في تشرين الثاني 1850 لقبول العمل في مصانع والده للنسيج في مانشستر، وذلك لاجل ان يدعم ماركس وعائلته مالياً". (تفاصيل اكثر في هذا الشأن تحت العنوان الجانبي "ماركس والفقر" من كتابنا "ماركس الآخر"، قريباً).
ولكن مما يستدعي التأمل هو أنه وفي ظل هذه الظروف الاستثنائية استطاع كارل ماركس ان ينتج افكاراً تكاد أن تكون فلقتْ مسار التاريخ إلى نصفين، وتربعت بين صفحاته كأنصع وارفع ما يكون من أفكارٍ في مجال الاقتصاد السياسي!.
(3)
لم يعرف كارل ماركس عملاً وظيفياً مستقراً، إذا ما استثنينا عمله ككاتب وكمراسل من لندن لجريدة "نيويورك ديلي تربيون" في الولايات المتحدة الامريكية. فبالرغم من تأهله وبروزه في مجال الفلسفة لم تُتح له فرصة الالتحاق باي من الجامعات في مجال التدريس، وكانت تلك هي رغبته الأكيدة، وذلك بسبب أفكاره الثورية، وليس ذلك وحسب وانما ظل ملاحقاً من بلدٍ إلى آخر، بل وحتى يوم وفاته لم تكن له جنسية معروفة او جواز سفر رسمي، بعد ان تخلى طوعاً عن جنسيته البروسية/الألمانية، وبعد ان رفضت كذلك السلطات البريطانية طلبه للتجنس. ولكن مما لاشك فيه أن بريطانيا كانت البلد الوحيد الذي استقبل ماركس كلاجئ، مثل بقية لاجئي اوروبا السياسيين، الذين كانت لندن وقتها هي قبلتهم الاكثر أمناً. كانت لندن بالنسبة لماركس اكثر من ذلك، حيث كانت المكان الذي كتب فيه أهم مؤلفاته، كتاب "رأس المال". منها علتْ شهرته، وانتشرت أفكاره في كل الأنحاء.
أكمل كارل ماركس المسودة الأولى لمؤلفه "رأس المال" في حوالي اربع سنوات ونصف، حيث انه بدأ الكتابة فيه في بداية حزيران 1861 وانتهى منها في اواخر كانون الأول 1865، ولكن "رأس المال"، الجزء الاول، اكتمل بشكل نهائي في آذار 1867، ليتم بعد ذلك نشره من مدينة هامبورغ في المانيا في 14 ايلول 1867. لقد كان حصيلة بحثٍ استمر لما يقارب العقدين.
بدأ تبلور انتباه ماركس واهتمامه الجاد بقضايا الاقتصاد السياسي ودراستها، وكما يؤكد المؤرخون، بعد التقائه بصديق عمره وشريكه في صياغة العديد من الأعمال النظرية، فردريك أنجلز. بدأ ماركس في الدراسة الجادة للاقتصاد السياسي بعد تسع سنوات من تخرجه ومن نيله للدكتوراه في الفلسفة، اي في العام 1850. ومعروفٌ عنه أنه في مجال الدراسة والتحصيل، كان اشبه بـ"ماكينة بشرية" يلتهم الكتب بنهم معرفيٍّ حقيقي. وقد انعكس ذلك في فيض المعلومات والافكار التي دائماً ما كان يفصح عنها أثناء الحوارات التي كان يخوضها مع زملائه وأصدقائه. وقد وصفه احد أصدقائه في جامعة برلين، وهو كارل كوبين، بقوله "إنه ترسانة من الأفكار ومصنع حقيقي لها". وأعتقد أن ذلك كان مصدرها الأول كعبارة شهيرة إندرجت في تاريخ الكتابة المعاصرة.
(4)
حينما بدأ في تأليف "راس المال"، لم يأت ماركس إلى مشروعه هذا خالي الوفاض، إنما جاء بذخيرة وافرة من الكتابة والتأليف، وإن كانت في مجالات مختلفة عن مجال الاقتصاد السياسي، بشكله الواضح، الذي اتقنه وانفق فيه بقية عمره!. ومن بينها المحاضرات التي قدمها لجمعية العمال الألمان في أواخر العام 1847، ومن ثم "البيان الشيوعي" بالاشتراك مع فردريك انجلز، في كانون الثاني 1848، وغيرها. كانت كتابات ماركس تلك تحمل في أحشائها إرهاصات لأفكار مثلت جزءاً من الانتاج النظري الذي احتواه كتاب "رأس المال"، على وجه الدقة.
وبشكل عام غطت إسهامات ماركس النظرية ثلاثة مجالات، أهمها نقد الاقتصاد السياسي، تاريخ أفكار الاقتصاد والاشتراكية. تمخض عن العمل النظري الضخم في مجال نقد الاقتصاد السياسي، مؤلف "رأس المال" بأجزائه الثلاثة. وقد شمل الجزء الاول، والذي نحن الآن بصدد ذكره، مساهمات ماركس النظرية حول القيمة، النقود ورأس المال بشكل عام، وفي ذلك بحث نظرياً في عملية الإنتاج حيث قام بالتشريح النظري لمفهوم السلعة والنقود، والعمل المأجور، القوى المنتجة وعلاقات الإنتاج، القيمة الزائدة ومن ثم عملية التراكم الرأسمالي.
وأما الجزء الثاني فقد كان محوره الأساس هو التبادل، وفي الجزء الثالث، الربح والريع، والاعتماد والتمويل، واما ما تمّ التواضع عليه بالجزء الرابع فقد عني بنظريات القيمة الزائدة بشكل اساس. لم ينشر كارل ماركس في حياته غير الجزء الاول من "رأس المال" في 14 ايلول 1867، حيث قام فردريك انجلز بنشر الجزأين الثاني والثالث، بعد وفاة ماركس، في الاعوام 1885 و1894. وقد بذل انجلز مجهوداً كبيراً في تحرير وإعداد هذين الجزأين لانهما لم يكونا مكتملي الاعداد كما كان يعتقد، وذلك لان ماركس كان في السنوات الأخيرة في حالة من الترحال الدائم لاجل الاستشفاء. وأما في الفترة ما بين 1905 و 1910 فقد نشر كارل كاوتسكي مجلدات القيمة الزائدة.
(5)
ذهب ماركس بنفسه من لندن إلى هامبورغ في المانيا وأعطى مسودة الجزء الاول للناشر "كارل ميسنر"، ومنذ ذلك الوقت لم تتوقف الضجة التي ترتبت على نشر هذا الكتاب. والذي احدث تحولاً مشهوداً ليس في علم الاقتصاد السياسي وحسب وإنما في مجمل تاريخ الفكر الإنساني وكذلك في التاريخ الاجتماعي والسياسي للعالم. ومن الحقائق الساطعة انه على إثر ذلك لم تكره البرجوازية مفكراً قط مثل كراهيتها لكارل ماركس، وبقدر ما انه يعتبرها مسؤولة عن شقاء الانسان، فهي تعتبره المسؤول الأول عن التأسيس النظري للعداء الموجه ضدها. ولمعرفته لتلك الحقيقة، وبعد انتهائه من "رأس المال" والدفع به للنشر، كتب إلى صديقه أنجلز وبسخريته المعهودة قائلاً، "وعلى كل الأحوال اتمنى ان يتذكر البرجوازيون دماملي هذه، طيلة ما تبقى من حياتهم"، (من رسالة بتاريخ 22 يونيو 1867). ومن المعروف ان ماركس ومن كثرة جلوسه الساعات الطوال لاجل الاطلاع والتحصيل والبحث في مكتبة المتحف البريطاني، اصابته قروح ودمامل لم يشف منها، وكثيراً ما اضطرته للوقوف.
لقد أصبح كارل ماركس، اليوم، يحتاج وبشكل ملح للتطوير، سيما بعد تكرار إطلالاته الظافرة عند كل منحى صعب في تاريخ العالم، نتيجة الأزمات التي تدخله فيها قوى الرأسمال. وقد شهد العالم مؤخراً عودته الطاغية بعد الانهيار الذي أصاب الاقتصاد العالمي في العام 2008، كما وشهد أيضاً نفاد مولفه "رأس المال"، الذي تمت إعادة طباعته، ليتصدر واجهة الكتب بعد مرور ما يقارب القرن ونصف من الزمان.
إنه، وبوفاته في العام 1883 ارتاح كارل ماركس من "دمامله" و"آلامه" إلى الابد، إلا ان البرجوازية وبكل فئاتها "التقليدية" منها و"الطفيلية" المعاصرة، ستظل في تذكره المقلق، أكثر من أي طبقة اجتماعية أخرى، ما ظلت هي على وجه هذه الأرض.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
مراجع تمت الاستفادة منها في كتابة هذا المقال/
1- كارل ماركس وفردريك أنجلز، "الاعمال الكاملة".
2- كارل ماركس، "رأس المال".
3- كارل ماركس، "الرسائل".
4- ويرنير بلومنبيرج، "كارل ماركس، تاريخ توضيحي".
5- ديفيد ماكليلان، "كارل ماركس، حياته وفكره".
6- ساول بادوفر، "كارل ماركس، سيرة حميمة".
7- ستيفن ترومبلي، "خمسون مفكر، شكلوا العالم الحديث".
8- صديق عبد الهادي، "كارل ماركس الآخر، سيرة مغايرة" (تحت الاعداد).
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* كاتب سوداني