المنبرالحر

بيروت حرّة! والمقاومة مستمرّة! / ماري ناصيف - الدبس

كان مركز قيادة القوات الصهيونية يقع في البيت الصغير، الذي يشكل زاوية شارع مار الياس تجاه مدخل حي اللجا، وبالقرب منه، على التقاطع الآخر، البناء الذي يقطنه جنود العدو. بين الموقعين، كانت توجد فسحة بسيطة فيها مطبعة قديمة وبيت وبعض الأشجار، وحول المكان جنود وآليات للحراسة، بينها دبابتان كانتا تصوبان مدفعيهما باتجاه أحيائنا في كركول الدروز، من جهة، وحي اللجا، من الجهة الأخرى. أما أسلحة الجنود الصهاينة، الذين يقفون على الحواجز أو السائرين في دورية سريعة حول المباني، فموجهة دوما باتجاه المارة الذين تحدّوا الخوف ونزلوا غلى الشوارع منذ اليوم الأول، بعضهم يرصد التحركات المعادية بينما البعض الآخر يجتمع في حلقات صغيرة لتبادل آخر أخبار عمليات المقاومة، خاصة تلك التي حصلت بالقرب من محطة أيوب، فإذا ما اقتربت الدورية انفض التجمع وذهب كل في حال سبيله، وسط أجواء من الفرح الممزوج بالغضب، فرح بانطلاقة جبهة المقاومة الوطنية اللبنانية وغضب في مواجهة المحتل الصهيوني.
أذكر أن المحتلين فتشوا لمدة خمسة أيام عن مركز حزبنا في كركول الدروز. كان بعض الجيران يأتون إلى حيث أقيم أو يرسلون لي أخبارا بأن الدورية الصهيونية استوقفتهم لتسألهم عن وجود مركز في الجوار... دون طائل. كان هذا السكوت المطبق يشكل نوعا من المقاومة بالنسبة للقاطنين في المنطقة الذين ألفناهم وألفونا لمدة ست سنوات طوال تشاركنا فيها الحلو والمر، حلو التعاون على تأمين مقومات العيش، من النظافة والمياه والإسعافات الأولية، ومر القصف العنيف الذي كان ينهمر فوق رؤوسنا، وعلى طرقات الوصول إلى منازلنا ومقارنا، من الكتائب والقوات اللبنانية وبعض ألوية الجيش، كما من قوات الردع الآتية بغطاء أميركي – رجعي عربي لقمعنا كوننا فكّرنا يوما في تغيير النظام الرأسمالي المتستر وراء الانقسامات الطائفية.
وعندما اكتشف الصهاينة مركزنا بالصدفة، بعد تفتيش العديد من الطوابق الأولى للأبنية المحيطة، خرجوا خاليي الوفاض، إذ لم يجدوا في المركز سوى ثلاث بذلات عسكرية غير صالحة للاستعمال... ومفك للبراغي كنا قد نسيناه في مطبخ المركز على ما يبدو. أما كيف عرفت ذلك، فلأنني كنت أراقب من نافذة الطبقة الثانية في البناء المواجه للمركز.
ستة أيام مرّت على هذا المنوال، لم يهدأ فيها للصهاينة بال. كانوا يطلقون النار في الهواء عند مجرد سماع صوت ما أو، حتى، عواء كلب شارد. المقاومة أرعبتهم وقضّت مضاجعهم. والالتفاف الشعبي الذي حظي به المقاومون، من قبل بائعي الخضار الجوّالين وعرباتهم إلى العاملين في المقاهي حيث نفذت إحدى العمليات الأساسية إلى المارة، كان يشكّل مؤشرا أن مهمة تحرير العاصمة لن تطول كثيرا وأن الحساب سيكون عسيرا لبعض العملاء وصغار النفوس الذين استقبلوا جنودا للعدو. ولا ننسى موقف أهالي الشهداء الأربعة الذين سقطوا في المواجهة يوم السادس عشر من أيلول، الشيوعيون منهم وغير الشيوعيين.
ستة أيام مرّت بلياليها الطويلة...
وجاء اليوم السابع لينبلج فيه نور جديد. نور انسحاب المحتل المعتدي من أرض بيروت، أم العواصم، وهو يجر أذيال الهزيمة المرّة.
"يا أبناء بيروت! لا تطلقوا النار، فنحن منسحبون".
بيروت أصبحت حرّة!!!
كلمات كانت بمثابة أجمل الشعار على آذاننا. ولا تزال كذلك...
إنها الرد على منطق الهزيمة الذي حاول بعض العملاء تعميمه. الردّ على الخطف الذي تعرّض له العشرات بل والمئات، قبل يومين على بدء الاجتياح. الرد على مجزرتي صبرا وشاتيلا وآلاف المواطنين الفلسطينيين واللبنانيين الذي قضوا على يد الصهاينة وعملائهم. صحيح أن هذا الرد، رغم أهميته القصوى، لا يلغي حرقة قلوبنا على من قضوا. إلا أنه أعاد مجرى التاريخ إلى حيث يجب، عبر إطلاق حركة جديدة على هذا الساحل العربي، باتجاه طريق خلدة – صيدا، "طريق هو شي مينه" كما أطلق عليها المحتل يوم كان يتعرض لعمليات متلاحقة في خلدة والناعمة والجيّة وجدرا وصيدا، في وقت كان فيه أبطال آخرون يستعدون لإتمام المهمة في البقاع الغربي وراشيا ومنطقة الجبل الجنوبي كله، امتدادا إلى الزهراني وصور والنبطية، وإلى انتفاضات الأسرى في معتقل أنصار.