المنبرالحر

الديوانية ودور الجماهير في حماية ثورة 14 تموز 1958 / نبيل عبد الأمير الربيعي

أية ثورة جماهيرية شعبية يجب أن ترتكز على معطيات رصينة لنجاحها, فالظروف الذاتية مضمونة لنجاح الثورة من حيث الإمكانيات العددية للضباط الأحرار، ولكن الظروف الموضوعية لها دور في إنجاح الثورة.
عندما رأى عبد الكريم قاسم, أن شعبه يسحق تحت طائلة الظلم والاستبداد الملكي الرجعي, ويرزح تحت نير الطغاة ولا أمل بالخلاص إلا في الثورة , توقدت في نفسه الجياشة شرارة التحدي مأخوذاً بعشق الحرية، ومكنته من تحقيق حُلمِهِ الجميل في إقامة النظام الجمهوري .. لقد كانت كلماته قوية, مدوية منفعلة ومؤثرة تعكس شغفه بالثورة والحرية والمساواة والعدالة والبناء والتقدم بعد المسيرة الطويلة لآلام وأحزان العراقيين, وقد وجد في الثورة انطلاقة موفقة لسفر جديد وفي نهضة عارمة لتحرير الإنسان العراقي من النظام الرجعي الذي كان يكبله بقيود القهر والاستغلال, ويخنق انفاسه ويحبس عليه آماله وتطلعاته.
يوم 25 حزيران 1958 صدر كتاب الأركان العامة/ مديرية الحركات العسكرية بكتابها المرقم ح/صفر/893 بتحرك جحفل اللواء العشرين من معسكر جلولاء إلى الأردن, فصدرت الأوامر في 3 من تموز 1958 إلى جحفل اللواء العشرين بإمرة الزعيم الركن أحمد حقي بالتحرك من معسكره في جلولاء نحو الأردن (1).
أصدر قائد الثورة عبد الكريم قاسم في 11 تموز 1958 قراراً بتبليغ قوى المعارضة الوطنية عن طريق وصفي طاهر ليبلغ الحزب الشيوعي العراقي, وقام رشيد مطلك في نفس اليوم بإبلاغ الحزب الوطني الديمقراطي بشخص رئيسه كامل الجادرجي الذي بدوره بلغ محمد حديد برقياً، وكان في زيارة للموصل بالحضور إلى بغداد, كما ارسل برقية أخرى إلى هديب الحاج حمود تطلب إليه الحضور, وبلغ العقيد الركن عبد السلام عارف حزب البعث العربي الاشتراكي في نفس التاريخ عن طريق علاء الدين كاظم, أما حزب الاستقلال فقد بلغ عن طريق أحد ضباط اللواء العشرين من أقرباء فائق السامرائي وبدوره بلغ صديق شنشل (2).
في الساعة 5,45 من صباح يوم 14 تموز 1958 المصادف 26 ذي الحجة 1377هـ تحرك اللواء العشرون إلى بغداد, وصلت دار الإذاعة قوة عسكرية تتقدمها سيارة بيك آب تقل الرئيس مهدي الصالحي مساعد آمر الفوج الثالث, وبعد السيطرة على دار الإذاعة أخذ الأهالي يتجمهرون حول مبنى الإذاعة بشكل متسارع, وأذاع العقيد الركن عبد السلام عارف بصوته البيان الأول لثورة تموز, ثم توجه اللواء التاسع عشر بقيادة الزعيم عبد الكريم قاسم والضباط الأحرار إلى بغداد وتمت السيطرة على الأوضاع واعتقل قائد الفرقة الثالثة اللواء الركن غازي الداغستاني وضباط ركنه وآخرون من الضباط, لكن كان الجو العام مؤيدا للثورة.
فلاحو الديوانية ودورهم في حماية الثورة 14 تموز 1958
كان للفلاحين في مدينة الديوانية مع العمال والقوى والأحزاب الأخرى دور في مساندة الثورة في أول أيامها , وقد تَمّ افشال محاولة قائد الفرقة الأولى في المدينة عمر علي للتحرك بقوة إلى بغداد والقضاء على الثورة, لكن حشود الفلاحين في مدينة الديوانية عرقلت للتحرك قائد الفرقة، فضلاً عن سماعه نبأ مقتل الملك فيصل الثاني والوصي عبد الإله حيث خابت آماله, وعند سماع قادة الثورة نوايا قائد الفرقة الأولى تم استدعاؤه إلى بغداد وقدم إلى محكمة عسكرية ليحاسب على تصرفه هذا.
كانت التظاهرات وهي تمثل الطلبة والشباب وأعضاء الحزب الشيوعي العراقي والحزب الوطني الديمقراطي تجوب الشوارع احتفالاً بالثورة وقائدها , والمطالبة بإطلاق سراح السجناء السياسيين.
ذكر الراحل شاكر نعمة مزعل وهو من أبناء الديوانية, وكان أحد مراتب الفوج الثالث التابع للواء الرابع عشر التابع للفرقة الأولى في الديوانية ومن المساهمين في إحباط محاولة عصيان قائد الفرقة، عن كيفية إحباط ذلك العصيان قائلاً: «بعد إعلان البيان الأول لثورة 14 تموز وبأمر من قائد الفرقة الأولى اللواء الركن عمر علي, تجمعت وحدات الديوانية في مقر الفوج الثالث من اللواء الرابع عشر, ووقف عمر علي مخاطباً المجتمعين قائلاً (أن الملك والوصي وجميع أفراد العائلة المالكة بخير, وما أذيع من الإذاعة ما هو إلا محض كذب, ومن واجبنا الآن الحفاظ على النظام الملكي) , ثم أمر الجميع بالتفرق مع الحيطة والحذر, وفي هذه الأثناء كانت قد اندلعت تظاهرة جماهيرية حاشدة في مركز مدينة الديوانية تأييداً للثورة, فأمر عمر علي بنزول بعض الوحدات لتفريق التظاهرة, وكنت حاضراً أثناء صعود المراتب والجنود في سيارات الزيل, فهمست للكثيرين ممن اعرفهم بعدم إطلاق النار على المتظاهرين, وفي الساعة العاشرة صباحاً من نفس اليوم استدعاني الرائد كاظم عبد الكريم آمر السرية الثانية من الفوج الثالث من اللواء الرابع عشر, وكان معهُ الملازم طارق .. وهم من الضباط الأحرار كما عرفت فيما بعد, وكأنه يعرف بأنني مسؤول تنظيمات (الحزب الشيوعي في منظمة الديوانية) للمراتب في الفوج الثالث, وطلب منا المشاركة في الهجوم على مقر الفرقة الأولى ليلاً, فوافقت بشرط أن يتقدم هو أمامنا فوافق أيضاً, وأخبرني بالخطة وبساعة الصفر. أجبته : لدينا خطة ربما أفضل من هذه . قال ما هي؟ قلت له حسب معلوماتنا أن عمر علي ينوي زيارة العقيد خيري الحافظ آمر كتيبة الدبابات الخامسة (كان موقفه غير واضح من الثورة) عصراً وسنقوم بحشد رفاقنا ومؤازرينا من المراتب على جانبي الطريق دون أداء التحية لهُ وإشعاره باستيائنا من موقفه, وافق الرائد كاظم على هذه الخطة, تم تنفيذ الخطة التي رسمناها فعلاً في الساعة الرابعة عصراً عندما توجه عمر علي إلى مقر الكتيبة الخامسة وبعد أن اقتنع بأن لا أحد يؤيده في عصيانه أعلن الاستسلام وأرسل إلى وزارة الدفاع بعد فشل عصيانه ونجاح خطتنا دون إراقة قطرة دم واحدة»(3).
تقرر يوم 4 آب عام 1958م إطلاق سراح السجناء السياسيين من جميع السجون في مدن العراق, وكان ذلك القرار قد اتخذ بعد مرور أكثر من عشرين يوماً على الثورة, فكان يومها قد منحوا الحرية وحق الحياة الحرة الكريمة.

المقاومة الشعبية في الديوانية
أصدر مجلس السيادة في العراق القانون رقم (3) الخاص بتشكيل المقاومة الشعبية في اليوم الخامس عشر من شهر آب/أغسطس 1958م بناءً على طلب مجلس الوزراء(4) . وقد حدد القانون في مادته الأولى طبيعة المقاومة الشعبية على أنها " منظمات عسكرية شعبية ترتبط بوزارة الدفاع, في حين حددت المادة الثانية واجبات المقاومة الشعبية, تدريب المواطنين عسكرياً للاستفادة منهم في معاونة القطعات العسكرية النظامية للدفاع المدني والمساهمة في حفظ الأمن الداخلي والدفاع عن البلاد وفقاً للتعليمات التي تصدرها قيادة القوات المسلحة(5), والتي سرعان ما أصبح تعدادها في آب 1958 (11000) شاب وفتاة(6), كما حقق الشيوعيون مكاسب سريعة في القوات المسلحة، ووصل توزيع صحيفة (إتحاد الشعب) التي ظهرت علناً في 25 كانون الثاني 1959م إلى 23 ألف نسخة , وتنامت المنظمات المساعدة للحزب بصورة أكبر من ذلك.
بعد أيام تشكلت فصائل المقاومة الشعبية في مدينة الديوانية، وكانت بقيادة العقيد جواد التعيسي والمسؤول المدني لازم محمد عضو مدينة في محلية الحزب الشيوعي العراقي، وعضوية عشرة من الأسماء الوطنية من ضمنها حزام النصار وابن قائد الفرقة الأولى حميد الحصونة وقيس عجيل وحسين عبد الكاظم لفتة وآخرون, لقد كان للتنظيمات الشعبية دور مرموق في حماية الثورة, وهذا ينطبق على تشكيلات المقاومة الشعبية وتشكيل لجان الجنود وضباط الصف في المعسكر, وكذلك لجان صيانة الجمهورية في المدينة.
لقد ساهمت المقاومة الشعبية في تعبئة الكثير من الناس لمواجهة احتمالات التآمر على الجمهورية, ومارست دورها وتدخلها الكبير في أمور مثل تفتيش الطرقات والمركبات والدور وممارسة الاعتقال, والغرض كان الدفاع عن الجمهورية بإخلاص. أقامت تنظيمات المقاومة الشعبية حفلاً كبيراً حضره عبد الكريم قاسم أشار فيه على المقاومة الشعبية بقوله : «إنني أنا الذي فكرت بتأسيس وإيجاد المقاومة الشعبية في الجمهورية العراقية لكي تكون حصناً منيعاً لأبناء الشعب تساند القوات المسلحة في الشدائد والملمات... إن إخلاص البعض من المقاومين الشعبيين دفعهم إلى القيام من شدة حرصهم ببعض الأعمال التي هي فوق واجباتهم... لكنهم لم يتصورا نتائجها إنما يعملون ذلك لمصلحة الوطن وكلهم إخلاص وشهامة واندفاع لأداء واجباتهم, فعندما يقومون ببعض الأعمال ربما تكون طائشة عن دون قصد , فإنني أطلب إلى أبناء الشعب أن لا يحملوا هذه الأعمال عن قصد سيء أو نية سيئة»(8).
مؤتمر أنصار السلام الأول في الديوانية
في صيف عام 1959م تم عقد المؤتمر الأول لأنصار السلام في مدينة الديوانية في ساحة مدرسة التهذيب الابتدائية وبإشراف محلية الديوانية للحزب الشيوعي العراقي, وحضر المؤتمر وفود من بغداد ومنظمات مهنية متعددة من جميع مناطق المحافظة, كما حضر المؤتمر الشاعر محمد صالح بحر العلوم رئيس حركة أنصار السلام سنة 1959م الذي ألقى قصيدة في المناسبة, وحضر المؤتمر ايضاً كل من : أيوب سبتي وجواد شاروط وكاظم الشمرتي وعبد الله الخزاعي ورحمن الخزاعي ولازم محمد الخزاعي وكيطان ساجت وعواد قران أحميد واسطة محمد البغدادي وياسين علوان وعبد الله حلواص وعبد الله كريو وعبد الزهرة التتنجي وعزيز ناصر وجليل الريس وجليل جبار خشم ومحمود ناصر وداخل حمود ولفتة رهمة وشاكر محمود وكاطع حمادي ومنعم جبار صويلح وصفوگ وحسين خطاب وهادي نوماس وسلمان كاظم, ومن ضمن المشرفين على المؤتمر كل من : ساجت حمادة , طه علوان, عبد الرزاق الصافي, باقر ابراهيم الموسوي, زينل سوادي, إبراهيم مالك الشعلان, مهدي الزيادي, مسلم الشمرت, نجاح گندلة, سلمان الكروي, خليل سوادي الحلاق وحزام عطية النصار, فضلاً عن أن عريف الحفل كان غالب سباح الشباني, كان صوته الصداح شعراً ومثالاً وقولاً يغرد كالبلبل, وألقيت في المؤتمر بعض القصائد والكلمات التي تؤرخ تاريخ حركة السلام في العالم.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
المصادر/
1- حامد مصطفى المقصود . سيرة ثائر مدارات الأخوة الأعداء, ثورة 14 تموز . ط1, 2009, مكتبة مصر / دار المرتضى , العراق , بغداد. ص89/90 .
2- حامد مصطفى المقصود مصدر سابق. ص100/101.
3- مجلة الشرارة النجفية العدد 46 للسنة الخامسة 2010م, مقال تحت عنوان (ماذا عن إحباط محاولة عصيان قائد الفرقة الأولى بعد إعلان البيان الأول للثورة) لقاء صالح العميدي مع الفقيد شاكر نعمة مزعل.
4- د.كاظم حبيب . لمحات من عراق القرن العشرين. الكتاب السادس, ص298؛ د.نوري عبد الحميد العاني. تاريخ الوزرات العراقية في العهد الجمهوري.ج1. ص150 /151.
5- د.كاظم. لمحات من عراق القرن العشرين. مصدر سابق,ص299.
6- حنا بطاطو. العراق. الطبقات الاجتماعية والحركات الثورية. ترجمة منيف الرزاق. الكتاب الثالث. ص159/165.
7- لطيف. مازن. حنا بطاطو في سيرته ومنهجه وتفسيره لتاريخ العراق المعاصر. دار الرافدين. بيروت.2015. ط1. ص83.
8- د.كاظم حبيب . لمحات من عراق القرن العشرين. الكتاب السادس, ص302.
9- عصام شخصية تمثل نوري السعيد.