المنبرالحر

في الذكرى المئوية الأولى لثورة أكتوبر المجيدة / ناصر حسين

كارل ماركس أشار إلى نزوع الرأسمال إلى أن يكون عالمياً .
فردريك أنكلز عبر عن قناعته بأن الحروب المقبلة ستكون حروباً كونية. لينين في مؤلفه ((الامبريالية اعلى مراحل الرأسمالية)) أكد حقيقة تاريخية أن تقاسم العالم بين الدول الكولونيالية قد انتهى. وأن ما سيقع وبفعل قانون التطور المتفاوت للبلدان الرأسمالية المتطورة هو ((اعادة تقاسم العالم)).
عليه ومن خلال ملاحظة الأممية الثانية لتطور الإحداث كانت هناك قناعة بان العالم يسير باتجاه حرب كونية من اجل أعادة التقاسم وعليه تقرر في الأممية أن على بروليتاريا البلدان المتحاربة القيام بالثورة على سلطة البرجوازية في كل من تلك البلدان وإسقاطها وإحلال سلطة الطبقة العاملة بديلاً عنها، سلطة دكتاتورية البروليتاريا التي كان ماركس ينظر إليها على أنها أداة بناء المجتمع الخالي من الطبقات.
وقامت الحرب الكونية الأولى فعلاً عام 1914 وفي الوقت الذي اخذ لينين والحزب الاشتراكي الديمقراطي يعدان العدة لإسقاط السلطة القيصرية الإقطاعية – كان قيصر روسياً أكبر إقطاعي في البلد – كانت المفاجأة أن الأممية وعلى رأسها كاوتسكي أصدرت قراراً يبيح لبروليتاريا البلدان المختلفة التقاتل فيما بينهم بحجة ((الدفاع عن الوطن)). هذا الأمر عالجه لينين في مؤلفه المعروف ((الثورة البروليتارية والمرتد كاوتسكي)).
عندما بدأت المعارك كانت ألمانيا وسلاطين ال عثمان في جهة وبريطانيا وفرنسا وروسيا القيصرية وغيرهم في الجهة المقابلة التي انضمت إليها الولايات المتحدة في آخر أيامها كل يريد له حصة من الكعكة.
في 8 آذار من العام 1917 (وفقاً للتقويم الروسي القديم فالتوقيت كان في شهر شباط)، تحت تأثير الجوع والحرمان ومآسي الحرب انطلقت في مدينة سانت بطرسبورج تظاهرات نسائية شارك فيها الشيوخ والأطفال إذ أن الشباب كانوا يقاتلون في الجبهة.
قيصر روسيا أمر بإنزال إحدى القطعات العسكرية إلى العاصمة للسيطرة على الأوضاع وفشل في ذلك إذ التحقت تلك الوحدة العسكرية بالمتظاهرين. في اليوم الثاني أمر بإنزال وحدة أخرى من أجل تجريد من التحق بالمتظاهرين من السلاح وتفريقهم إلا أن الوحدة الجديدة لم تنفذ أوامر القيصر والتحقت هي الأخرى بالمتظاهرين.
في اليوم الثالث تكرر المشهد فاضطر القيصر إلى التنازل عن العرش ومغادرة العاصمة صحبة عائلته إلى جهة مجهولة.
رئيس مجلس الشيوخ أعلن ذلك للملأ ووفقاً لصلاحياته أمر بتشكيل حكومة مؤقتة تتولى مهمة إدارة البلاد لحين اجتماع الجمعية التأسيسية.
آنذاك كان لينين منفياً في سويسرا واطلع من خلال الصحف على ما جرى في روسيا فبعث إلى اللجنة المركزية للحزب الاشتراكي الديمقراطي الروسي – البلاشفة – بعدة رسائل يقترح فيها على اللجنة المركزية الخطوات المستعجلة التي ينبغي القيام بها، تلك الرسائل منشورة في أحد مؤلفات لينين تحت عنوان ((رسائل من بعيد)).
الجمهور الروسي كان يثق بلينين ثقة مطلقة لهذا عندما كان يتحدث إلى الجمهور أحد قادة الحزب المتواجدون في العاصمة ستالين، دزرجنسكي، أورجونكدزة، سفر دلوف وغيرهم يبدون ارتياحهم للحديث ولكن يوجهون السؤال للمتحدث ((ولينين ماذا يقول)) ؟ وهكذا أصبحت عودة لينين إلى روسيا أمر تقتضيه الضرورة. فشدّ الرحال ووصل العاصمة الفنلندية.
هنا كان الإشكال. فالمنطقة التي يمر فيها القطار الذي يتحرك بين العاصمتين كانت تحت سيطرة القوات الألمانية الغازية. فتمت صفقة : تسمح بها القوات الألمانية للقطار الذي يستقله لينين بالمرور باتجاه سانت بطرسبورغ مقابل تسليم القوات الألمانية أربعة جنرالات ألمان اسرى لدى القوات الروسية وقد نفذ الاتفاق ووصل لينين إلى العاصمة الروسية. وكان أول ما نطق به مخاطباً الجمهور ((قمتم بالخطوة الأولى وعليكم القيام بالخطوة الثانية)).
تفرق الجمهور وهو على قناعة بأن الحكومة المؤقته ليست هي الحكومة المطلوبة. آنذاك كانت عملية تشكيل مجالس السوفيبتات قائمة على قدم وساق.
أما على الجبهة فقد أوقف الجنود الروس والألمان القتال وحققوا الصلح فيما بينهم حتى قبل أن تتصالح حكوماتهم وبدأ الجنود الروس بمغادرة المواضع القتالية. وقد علق لينين على ذلك بالقول ((لقد صوت الجنود ضد الحرب بأحذيتهم)).
في نيسان طرح لينين وجهة نظره على شكل موضوعات حملت عنوان (موضوعات نيسان) ولم يقل صراحة أن الحكومة المؤقته ينبغي اسقاطها بل طرح شعار ((كل السلطة للسوفييتات وهذا يعني انهاء ازدواجية السلطة، سلطة السوفيتات مقابل سلطة الحكومة المؤقتة)). استبدلت الحكومة المؤقته الأولى بحكومة مؤقته جديدة برئاسة كيرنسكي ممثلاً لتحالف المناشفة والاشتراكيين الثوريين. وانقسمت مجالس السوفيتات إلى قسمين قسم بقيادة المناشفة والاشتراكيين الثوريين والآخر بقيادة البلاشفة، وأصبحت السيطرة في مجلس سوفيتات العاصمة لهم وليس للبلاشفة فلم يعد للشعار أثر في أدبيات الحزب وكتابات لينين ولم يرفع مجدداً إلا بعد أن تغيرت الأمور وأصبحت ازدواجية السلطة واضحة : سلطة السوفيتيات بقيادة البلاشفة وسلطة الحكومة المؤقته التي يرأسها كير نسكي وكان لابد لهذا التناقض من حل فلا يمكن أن يستمر التناقض عندما ينشأ ويتطور بدون حل بإقصاء النقيض المهيمن الشائخ وأعطاء الهيمنة للنقيض النامي الشاب.
أصدرت الحكومة المؤقته أمراً باعتقال لينين وهددت مجلس سوفيات العاصمة بانها ستعتقله عنوة إذا لم يسلم اعضاؤه انفسهم للسلطة.
نقل لينين على عجل الى بحيرة رازليف وبني له كوخ في غابة تطل على البحيرة على الحدود الفنلندية واصبحت صلته مع اللجنة المركزية للحزب عن طريق المراسلة وفي ذلك المكان في تلك الفترة كتب لينين مؤلفة الشهير ((الدولة والثورة)).
لينين في مؤلف ((الامبريالية اعلى مراحل الراسمالية)) طرح استنتاجاً حول الثورة البروليتارية يختلف عن استنتاج ماركس. فالظروف الوضوعية قد تغيرت ولم تعد كما كانت عليه ايام الكومونة وايام ماركس.
لينين الذي لا يعرف ((الجمود العقائدي)) وهو ضده، طرح أمكانية قيام الثورة البروليتارية في بلد واحد يشكل الحلقة الاضعف بينما كان ماركس يؤكد على ان الثورة ينبغي ان تقوم في مجموعة من الدول الراسمالية المتطورة وفي آن واحد.
في رسائله إلى اللجنة المركزية وعلى ضوء استنتاجه هذا كان يلح على ضرورة اسقاط الحكومة المؤقتة واستلام السلطة من قبل البلاشفة وإنهاء ازدواجية السلطة وقد كتب في إحدى رسائله ان ((الحزب الذي لايبادر الى استلام السلطة عندما تحين الفرصة لا يساوي اكثر من صفر على اليسار)). ولم يأت استنتاجه من فراغ فهو الذي كتب عن شروط نضوج الوضع الثوري للقيام بالثورة كان يؤكد في رسائله على نضوج العاملين الموضوعي والذاتي لاستلام السلطة، ومن بين علامات نضوج الذاتي في العاصمة كان قطع معسكرات الجيش فيها لعلاقتها مع الحكومة المؤقتة واخذت تستلم اوامرها من مجلس سوفيات العاصمة الذي يرأسه سفر دلوف عضو اللجنة المركزية لحزب البلاشفة. وهنا ينبغي الانتباه الى ان تجارب الاخرين لا تستنسخ وان ما يصح هنا ممكن ان يكون خاطئاً هناك وأن التعامل مع النصوص ينبغي ان يوضع في اطاره الخاص من حيث الزمان والمكان كذلك.
لينين في تلك الفترة أخذ يؤكد على قيادة الحزب للاتصال بمعسكرات الجيش خارج العاصمة لكسب ولائها أو لأبقائها على الحياد كحد أدنى.
في تلك الفترة انتشرت الإشاعات في العاصمة بان لينين متواجد في غابة قرب بحيرة رازليف فاضطرت قيادة الحزب الى نقله الى العاصمة وتوفير الملاذ الآمن له في بيت أحد كوادر الحزب. طروحات لينين حول الثورة كانت تلقى المعارضة من قبل بعض رفاق اللجنة المركزية للحزب. تروتسكي المصاب بمرض الجمود العقائدي كان يعارض ويقول ((ان ماركس لم يقل هكذا، فالثورة تقوم في عدد من البلدان المتطورة وفي آن واحد)) أما كامينيف وزينوفياف فكانا يعارضان من موقع عدم فهم شروط نضوج العامل الذاتي ويعتبران هذا العامل غير متوفر في تلك الفترة)) وبقي الثلاثة على اعتراضهم حتى في الاجتماع المطول للجنة المركزية الذي حضره لينين وأقرت فيه اقتراحه بإسقاط حكومة كيرنسكي خصوصاً وأن كيرنسكي بقي مصراً على مواصلة الحرب وإطلاق النار في تموز على عمال مضربين في أحد المعامل في العاصمة وحصل نقاش حول موعد الثورة.
كامينيف وزينوفياف طرحا اقتراح أن تقوم الثورة بعد اجتماع الجمعية التأسيسية أما لينين وهو البارع في تحديد الستراتيج والتكتيك فقد لخص رأيه بأن في حالة انتظار اجتماع الجمعية التأسيسية يكون الوقت قد فات وأن الانتفاض المسلح قبل الاجتماع بأيام يكون الوقت مبكراً وأن الأنسب هو أن يستلم البلاشفة السلطة ليلة اجتماع الجمعية التأسيسية وقال مخاطباً اللجنة المركزية ((نأخذ السلطة ونذهب إلى اجتماع اللجنة فتصبح بين خيارين أما الاعتراف بنا كسلطة وأما تعترض وفي هذه الحالة نحلها وينتهي الأمر)) وأتفق على ذلك. وبقي كامينيف وزينوفياف على تحفظهما.
مما يذكر بهذا الخصوص أن كامينيف وزينوفياف ادليا بتصريح الى أحدى الصحف تحدثا فيه عن وجهة نظرهما وبهذا أصبح معروفاً لدى الجميع ماذا قرر البلاشفة وما هو موعد الثورة.
طلب لينين من صاحب الدار إحضار ستالين فوراً وحضر وقدم له تقريراً عما أنجزوه سواء كان عن تشكيل اللجنة العسكرية التي تقود الانتفاضة أو أمور أخرى تفصيلية.
استحسن لينين ما أنجزوه واتفق معه على تقديم موعد الثورة أسبوعاً عن موعده الذي أصبح معروفاً وحدد مساء يوم 6/7 تشرين الثاني من العام 1917 موعداً للثورة. يلاحظ هنا أن الموعد هو في شهر نوفمبر. فمن أين جاءت تسمية الثورة بأكتوبر؟ أنه الفارق بين التوقيت الميلادي والتوقيت الشرقي الذي كان متبعاً في روسيا القيصرية.
فالثورة قامت في نوفمبر وفقاً للتوقيت الميلادي وفي أكتوبر وفقاً للتوقيت الشرقي مساء يوم 6/7 تشرين الاول فيما أطلق الطراد افرورا ثلاث طلقات باتجاه القصر الشتوي للقياصرة – متحف الارميتاج حالياً – حيث كانت تتواجد الحكومة المؤقتة – فتم اقتحام القصر من قبل البحارة الذين كانوا محتشدين في بناية مجلس الشيوخ التي شهدت ذات يوم انطلاق الديسمبريين منها في انتفاضتهم المعروفة – ومن قبل الجمهور الذي كان محتشداً تحت قوس وزارة الدفاع بقيادة الشاب مكسيموف – حيث تم اعتقال الحكومة المؤقتة ونقلها الى مقر قيادة الثورة – معهد سمولني – وعند ذاك اعلن لينين في كلمة قصيرة أمام الجمهور الذي احتشد في قاعة الامتحانات في المعهد أن ((الثورة التي وعدكم بها البلاشفة قد قامت وانتصرت)).
ونحن نقترب الآن من الذكرى المئوية لثورة أكتوبر المجيدة نستذكر ما كنا نؤكده دائماً باننا نتعلم من أمجاد ثوار أكتوبر، ونؤكد على ما نقوله الان بأننا نتعلم ايضاً من الفشل الذي حل ببلد أكتوبر. ونبقى نردد ما كنا نردده دائماً عندما نحيي ذكرى الثورة المجيدة.
((لبناء عالم جديـــــــــــــــد
ولقبر مشعلي الحروب))
((في هدى أكتوبر المجيد
سائر موكب الشعوب))