المنبرالحر

ثورة اكتوبر العظمى والنضال لتحقيق المجتمع المنسجم / د. مجيد مسعود

لقد حاول المصلحون عـَبر مراحل تاريخية طويلة، وفي مناطق عديدة، إقامة الانسجام بين الناس وجعلهم سواسية.... إلا أن وقائع الحياة كانت تفيض باختلاف المصالح، مما جعل المجتمعات منقسمة إلى طبقات وفئات غير منسجمة، بل متناحرة في أغلب الاحيان.
وقبل اكتوبر الذي نحتفل بذكراه المئوية، تحقق إدراك عدم الانسجام في الحياة الاقتصادية والاجتماعية على أسس علمية. حيث تم تشخيصه باعتباره الناتج الطبيعي لأسلوب الإنتاج المستند على الملكية الخاصة لوسائل الانتاج، ولا سيما الأساسية منها. وهذا يجعل الأقلية المالكة هي التي تـَستحوذ على الفائض الاقتصادي وتستثمره لصالحها، على حساب فقر الغالبية من جماهير الشعب المحرومة من ملكية وسائل الانتاج. وهذا التمايز هو المحرك للصراع الطبقي التناحري في المجتمعات غير المتجانسة، في الرأسمالية وما قبلها.
وعند مراجعتنا لمشروع البرنامج الذي صاغه المؤتمر الأول لعصبة الشيوعين (في لندن 6 -9 حزيران 1847) نلاحظ أنه قد حدد الهدف الأساسي بـ "تغيير المجتمع، بحيث يستطيع كل فرد من أفراده تطوير واسـتخدام مؤهلاته وقواه بحرية تـامة، دون أن يتطاول على الشـــروط الأســاسية لهذا المجتمع" نشــرت مجلة الثقافة الجديدة بعددها 187 تموز 1987 ثلاثة وثائق للعصبة منها هذا النص أعلاه{.
وحدد مشــروع برنامج العصبة السبيل إلى تحقيق هذه الغاية عن طريق الغاء الملكية الخاصة، ولا سيما الأساسية منها، والتي ســتحل محلها مشاعية الممتلكات، لوسائل الانتاج. مــُوضحاً بأنها لن تقام فوراً ((مكان النظام الاجتماعي القائم)). ومُعللاً ذلك بــ ((أن تطور الجماهير لا يـُجيز تطبيق الأمور بمراسيم، أنه يرتبط بتطور الظروف التي تعيش فيها الناس ولذا فإنه يجري بصورة تدريجية)). وتكون البداية بتحقيق "الشروط ومنها الشرط الأساسي الأول" وهو "تحرير البروليتاريا سياسياً، بإقامة النظام الديمقراطي للدولة" وهي "الدولة الديمقراطية التي تتوفر فيها لكل حزب امكانية كسب الأكثرية إلى جانبه". كما جاء في افتتاحية العدد الأول من مجلة "الشيوعية"، الذي صدر في إيلول 1847.
و طالبت افتتاحية المجلة الكادحين ومن يـُمثلهم من المفكرين بالكف عن الخلافات حول تفاصيل المواصفات للمجتمع الجديد، وترك الأمر لمن سيقومون ببنائه. ودعتهم إلى نبذ فكرة حرق المراحل، حيث لا يمكننا أن ننتقل ذات يوم من الأيام، من المجتمع غير المنسجم إلى المجتمع المنسجم، فهذا يتطلب مراحل انتقالية تطول أو تقصر وفقاً للظروف. والملكية الخاصة لا يمكن أن تتحولّ إلى ملكية عامة إلا بصورة تدريجية".
وفي أكتوبر 1917 تـحررت البروليتاريا سياسياً في سـُدس الكرة الأرضية، واقامت لأول مرة في التاريخ دولتها الديمقراطية المتجهة صوب الاشتراكية، وفتحت الامكانيات لغالبية الشعب للمشاركة في قيادة الاقتصاد والمجتمع.
وقامت القوى الرأسمالية ومن تعاون معها في الداخل والخارج بمحاولة وأد هذه التجربة بالعنف المسلح، تكراراً للنهاية المأساوية لكومونة باريس التي اسقطوها بالعنف المسلح. وهذا الحال اضطر البروليتاريا وقيادتها إلى فرض ما سـُميَّ بـ "دكتاتورية البروليتاريا" لمواجهة الأعداء والمحافظة على المكاسب المتمثلة بتحررها السياسي والاقتصادي.
ومن أجل أن يظل هذا الطريق الجديد سالكاً امام البشرية جمعاء، يوفر لها الامكانية في سعيها لإقامة الانسجام في العلاقات البشرية وكذلك في علاقة البشر مع الطبيعة، صارت بلدان أخرى تختار ذات الطريق نحو بناء المجتمع المنسجم، مع مراعاة خصائص كل بلد، والمرحلة الانتقالية والتطورية التي انطلق منها.
صحيح أن السلطة الاشتراكية في الاتحاد السوفييتي، ومن ثم في بلدان المنظومة المتجهة نحو الاشتراكية قد استطاعت بالقوانين التي اصدرتها (تأميم، اصلاح زراعي، وما شابه ذلك) وبسياستها وخططها الاقتصادية لتصنيع وكهربة البلاد، وتعميم العمل التعاوني في الزراعة وغيرها، وبالإجراءات التعليمية والثقافية والاجتماعية التقدمية المتعددة الأخرى، أن تقضي على تناحر المصالح. إلا أنها لم تكن تمتلك مفتاحاً سحرياً لفتح باب المجتمع المنسجم، الموّحِد للمصالح في هذه المرحلة من تطور القوى المنتجة، ومن تطور انتاجية العمل المجتمعي بالمقارنة مع ما يماثلها على الصعيد العالمي.
واستكمالاً لهذه الجهود التي اختزلت طريق التنمية وعممت ثمارها على المشاركين في انجازها، وخلصت الكادحين من شبح البطالة، كان ينبغي الاستمرار في تعلم فنون إدارة الاقتصاد المخطط، وكيفية ممارسة السياسات الاقتصادية التي تستند على أساس المعرفة العلمية للقوانين الاقتصادية الموضوعية التي تحكم مجرى التطور في المجتمع. إن الإدارة التي تستخدم التخطيط المرّن بنجاح يـُفترض بها أن تكون هي التي تمتلك القدرة على التشخيص الدقيق لإمكانيات المرحلة المعينة من التطور، والمهارة في التشخيص لمحدداته وآفاق وسبل الوصول إليه، بأقل تكلفة ممكنة، وبأقل وقت ممكن، وبتعظيم النتائج الملموسة لتأمين الحاجات الأساسية وفقاً للمصالح الجماعية والفردية.
لقد دخلت هذه التجربة في صراع مرير داخل المجتمع وخارجه، واستطاع النظام الرأسمالي الامبريالي أن يجرها للحروب المدمرة ولسباق التسلح الذي أجهض مشاريعها التنموية.
وان الحديث عن مقوّضات النظام الاشتراكي مازال مفتوحاً وفيه اجتهادات كثيرة، ليس لجلد الذات بسبب يما حصل، وإنما للاستفادة من الدروس الماضية، ولتوضيح الطريق نحو الحلم الانساني، أي بناء المجتمع المنسجم. فما هو مضمون وشكل الاشتراكية في المستقبل كل يوم يـُبشرنا العلم بمنجز جديد على هذا الصعيد.