المنبرالحر

التجربة العراقية بين العوائق ورهانات المستقبل / بشار قفطان

بداية علينا ان نعرف مفهوم الدولة المدنية، هي تعني دولة المواطنة، ودولة المؤسسات، وهي التي تحمي وتحافظ على جميع ابناء مجتمعها من خلال التشريعات والقوانين الضامنة لتلك الحماية.
في ظل الدولة المدنية يُعتبر جميع سكانها متساوين في الحقوق والواجبات. بدون اي تمييز عرقي او ديني او قومي او طائفي او مذهبي او اثني، او على اساس الجنس واللون، وهذا يعني ايجاد نخب ثقافية و ادبية وأكاديمية تسعى جاهدة الى تحقيق ذلك، وهذا له جذوره التاريخية في بلاد الرافدين.
الدولة المدنية توصيف عام، ولكن الديمقراطية تكملة لذلك التوصيف، ولا يمكن تجزئة الدولة المدنية عن الديمقراطية. ولو نظرنا الى مواقف اغلب الحكام الذين يمارسون نشاطهم في ادارة بلدانهم، لرأيناهم يدعون الديمقراطية والمدنية، وهم يمارسون ابشع اشكال الدكتاتورية. وهذا يعني تزكية للديمقراطية في احقاق حقوق الاخرين. لذلك نرى اغلبية المثقفين بمختلف صنوفهم يتمسكون بنشر الوعي الثقافي، وتزدهر ارضيتهم في نشر الوعي بوجود الديمقراطية، حيث تعتبر الديمقراطية هي البيئة الافضل لجميع نتاجاتهم الاقتصادية والسياسية والاجتماعية والفكرية, وفي شتى الميادين الفنية والادبية، وهذه الشرائح الاجتماعية لها جذورها المتأصلة في بلاد مابين النهرين منذ الاف السنين ..
لو رجعنا الى تاريخ العراق الحضاري نراه اساساً للدولة المدنية منذ سبعة ألاف سنة، وان الحضارة هي من نتاج الفرد والمجتمع، وتعني لغويا الحضر، والحضر نقيض لمجتمع البداوة ..
ذلك التاريخ والإرث الحضاري دخل في اهتمامات معظم المؤرخين، العرب والأجانب. واستفادت منه معظم امم وشعوب العالم في لوائحها التشريعية والتنفيذية، التي كان يعمل بها الملك حمورابي، الذي حكم العراق من عام 1750 – عام 1792 قبل الميلاد ..
الدولة العراقية في مطلع عشرينات القرن الماضي كانت ايضا دولة مدنية من حيث الشكل ، وجاء ذلك بفعل دور ونشاط وتأثير النخب الاجتماعية الثقافية والاكاديمية في رسم سياسة الدولة بالممارسة والتشريع ، ولعبت تلك الشرائح دورا هاما في ارساء قاعدة بناء الدولة المدنية الديمقراطية ..
تلك النخب تواصلت مع مثقفي العالم من خلال الاحتكاك بهم، بشكل مباشر في الاطلاع على التطورات التي حصلت، وايصال ما يصدر من الكتب والمجلات الثقافية للقارئ. من بين تلك الرموز حسين الرحال ، الذي كان ابوه ضابطاً في الجيش العثماني، وذهب الى المانيا في بعثة عسكرية وقد اغراه ما شاهده في المانيا ان يرسل ابنه حسين للدراسة فيها. وفي مدرسة الهندسة في برلين تعرف على بعض الشباب وافكارهم، واخذ يتابع الصحف التقدمية الالمانية، وكان يستمع الى خطب روزا لوكسمبورغ، وعندما عاد الى العراق كان محملاً بالأفكار الماركسية، واستمر في قراءة الفكر الماركسي مع محمود حلمي صاحب المكتبة العصرية، وأول من تعرف عليه هو محمود احمد السيد ابن رجل الدين امام جامع الحيدرخانة، وكان هو الاخر قد درس في مدرسة الهندسة، وقد اثر الرحال في صديقه السيد ودفعه نحو تبني الفكر الاشتراكي، وكان كثير النشاط في الادب وخصوصا القصة، ولكن فيما بعد صارت قصصه تحمل مضامين اجتماعية، علما ان حسين الرحال كان له في بغداد العديد من الاصدقاء والاقارب المثقفين ) "1 "
" وتعرف الرحال على عبد الله جدوع الذي نشط لدعم الحركة النقابية، ومحمد سليم فتاح ومصطفى علي وابراهيم القزاز وعوني بكر صدقي وكمال صالح وعبد الحميد رفعت، وقد تعرف عليه كل من عبد القادر اسماعيل البستاني وعبد الفتاح ابراهيم وحسين جميل وزكي خيري وغيرهم، تلك المجموعة اتخذت لها غرفة في جامع الحيدرخانة مقرا لها، وما يشبه المقرالدائم مقهى النقيب, واخذت المجموعة) " 2 نشر الوعي الثقافي، من خلال (كتاباتهم في بعض الصحف والمجلات في المواضيع الاقتصادية والفكرية والسياسية والأدبية، بأسمائهم الصريحة او باسماء مستعارة. وعندما وقفت تلك المجموعة لنصرة المرأة جرت مضايقتها، وحرمان اعضائها من مواصلة الكتابة، ( 28 / كانون الاول عام 1924 اقدمت
المجموعة على اصدار صحيفة "الصحيفة" نصف الشهرية، صدر منها ستة اعداد ثم اوقفت عن الصدور في شهر أيار 1925) " 3 " واستمر عطاء المثقف العراقي ونتاجه الفكري في العهد الملكي شبه الاقطاعي. هذا جانب، والجانب الاخر الذي يكتسب اهمية هو التصاق المثقف مع الشرائح المضطهدة من ابناء شعبه فقاسمهم الهموم ولحق به من الاذى والملاحقة والاعتقال والسجن الشيء الكثير، والبعض قدم حياته ثمنا من اجل تحقيق الاهداف التي اقتنع بها وهي قيام الدولة المدنية الديمقراطية، والتاريخ العراقي غني بتلك الاسماء، التي لايتسع المجال لذكرها، من عمالقة الشعر والادب والفن، ومن العلماء والمؤرخين وقادة الفكر الاقتصادي والسياسي والاجتماعي والفلسفي.
ان دور ونشاط المثقف العراقي مرهون بوجود الديمقراطية، ولكن ذلك لايعني تعطيل دوره في غيابها. لقد حقق المثقفون في العراق مكاسب هامة منذ قيام الدولة العراقية حتى يومنا هذا في اتجاه استكمال بناء الدولة، من خلال جهودهم في رفع مستوى الوعي الفكري المدني، الامر الذي ساهم في تحقيق انتصار ثورة الرابع عشر من تموز ضد النظام الملكي شبه الاقطاعي عام 1958.
والمسالة لم تقف عند حد تغيير النظام، وانما ساهم المثقف العراقي وسائر النخب في دعم الثورة، وساهموا في كتابة التشريعات والقوانين التي تخدم ابناء الشعب، الدستور الموقت، قانون الاحوال الشخصية رقم 188 لسنة 1959، وقانون الاصلاح الزراعي، وقانون العمل، وقانون النفط رقم (80).. هذه التشريعات وغيرها تمت بفعل المثقفين والنخب الاكاديمية والادبية التي ازدهر دورها في تلك الفترة.
عندما حصل انقلاب شباط 1963 كان لتلك النخب حصتها من الملاحقة والتصفيات والاعتقالات ثمناً لموقفها من دعم ثورة الرابع عشر من تموز المجيدة ، والوقوف الى جانبها دفاعا عن المنجزات التي تحققت.
الانقلاب الدموي، وكل ماتعرض له المثقفون وسائر النخب الاكاديمية والادبية لم يثنِ عزيمتهم في الاستمرار من اجل قيام الدولة المدنية الديمقراطية.
علينا ان لاننكر اصطفاف بعض المثقفين الى جانب السلطة في كل الظروف بسبب الحصول على المغريات المادية او التربع على بعض مراكز السلطة، وهذا لم يؤثر كثيرا على من وقف الى جانب قضايا الشعب.
.. عند عودة سلطة البعث ثانية اواخر ستينات القرن الماضي واستخدامه اسلوب الترغيب والترهيب في كسب المثقفين والأكاديميين والأدباء وغيرهم الى جانبه بشكل علني، وممارسة شتى وسائل الملاحقة ضد من رفض الالتحاق بسياسة البعث، ادى ذلك الى انحسار دورهم وتراجع نشاطهم، وصارت معظم وسائل الاعلام معبرة عن سياسة الحزب الواحد الحاكم، وكممت الافواه. واغلب المثقفين والمفكرين والأدباء والفنانين والنحاتين وغيرهم ، ضمتهم جدران السجون والمعتقلات، او غيبوا في المقابر الجماعية، او تركوا مواهبهم قسرا، او غادروا البلد واختاروا العيش في بلاد المهجر.
نتيجة تضليل العقول من خلال وسائل الاعلام المتاحة وتغييب الوعي الثقافي اصيب البلد بالركود الثقافي، وتغلبت لغة الحرب وعسكرة المجتمع، وسعت جوقة المداحين الى تأليه الحاكم، وخوض الحروب ضد الجمهورية الاسلامية، ومن ثم حرب احتلال الكويت، والمعارك في كردستان. كل ذلك عزز من مكانة الدكتاتورية، وشجع الهجرة من الريف الى المدينة، والقيام بـ "الحملة الايمانية"، وغياب الكتب والمجلات الفكرية والثقافية من الشارع العراقي، وحجب الصلة مع العالم الخارجي، وصار الكتاب الذي يتعارض مع سياسة النظام مادة جرمية تدين من يقتنيه.
بعد سقوط النظام في نيسان 2003 من قبل قوات الاحتلال الدولي، حصلت الفوضى في الشارع العراقي، ابتهاجا بسقوط النظام من قبل الغالبية العظمى، وبقي صوت المثقف خافتا بالرغم من حضوره في وسائل الاعلام المقروءة والمسموعة والمرئية ..
اعتماد مبدأ المحاصصة الطائفية والقومية في ادارة شؤون الدولة، وتقاسم النفوذ، واحتدام الصراع الطائفي بسبب التركة الثقيلة للنظام السابق، ادى كل ذلك الى تشرذم بعض النخب وانحياز البعض الى بيئته الطائفية والمذهبية والدينية والقومية، والبعض الاخر حصل على بعض الاغراءات في التعيين، وحصول البعض على مواقع في سلطة الدولة.
النهج الطائفي الخاطئ المنتج للازمات والخروقات الامنية التي خلفت الالاف من الضحايا والمعوقين، وزيادة نسبة الارامل والأيتام والعاطلين عن العمل، وعدم توفير فرص للخريجين، وارتفاع نسبة الفقر، وغياب التخطيط في اعداد وتنفيذ المشاريع، وتفشي الفساد المالي والإداري وهدر المال العام، وتطبيق مواد الدستور بشكل انتقائي، وعدم اجراء التعداد السكاني، واعتماد سياسة اقتصادية احادية الجانب بالاعتماد على النفط والتوجه نحو البنوك الدولية في الاقتراض وبشروط مجحفة، ودعم دول الجوار لبعض الكتل الماسكة بالسلطة، مما جعل تلك الدول تتدخل في الشأن الداخلي، كل ذلك اعطى فرصة لعصابات داعش للسيطرة على مناطق واسعة من الاراضي العراقية وجعلتها تحت نفوذها منذ مطلع حزيران عام 2014 ، وكان قوة دافعة للنخب الثقافية والأكاديمية والأدبية ان تضطلع بدورها في تبني الخطاب المدني بشكل اوسع وتزيد من تقاربها.
ان ميزان القوى الان آخذ بالتغيير لصالح القوى المدنية بفعل تاثير ودور تلك النخب في ايصال صوتها عبر المنابر المتاحة، والذي تمخضت عنه حركة الاحتجاج والتظاهر السلمي، وخصوصا منذ تظاهرات اواخر تموز 2015 م وحتى يومنا هذا, حيث كان شعار الدولة المدنية يعلو باصوات المتظاهرين، وحتى من بعض رجال الدين.