المنبرالحر

مئوية ثورة اكتوبر الاشتراكية .. مراجعات الشيوعيين العرب لتجربتها (3) / رضي السمّاك

كثيرة هي الكتابات والدراسات التي أعدها الباحثون والشيوعيون العرب بمناسبة مئوية ثورة اكتوبر والتي توالى نشرها منذ أواخر سبتمبر / أيلول الماضي إلى يومنا إلا أنه يكاد يطغي على أغلبيتها الطابع الاحتفائي الذي يستعرض ويتغنى بأمجادها ومنجزاتها مهملةً أخفاقاتها وقليلة هي الدراسات والكتابات التي انتهزت المناسبة لتجديد المراجعة والنقد الذاتي بغية استلهام عِبرها ودروسها العديدة للخروج من المأزق الذي ما برح يعاني منه اليسار العربي وفي روسيا وفي العالم ومن ثم تلمس أنجع الطرق لإستعادة قوى اليسار الحزبية والجماهيرية وصولاً لتشييد الاشتراكية جديدة على اُسس متينة وطيدة كما أسلفنا سابقا . وبالرغم ما أتسمت به مراجعات فكرية وسياسية أجراها قادة ومفكرون ومثقفون من اليسار والاحزاب الشيوعية العربية للتجربة السوفييتية بالجرأة والنقد الذاتي الشديد الذي لربما قارب بعضه جلد الذات ، إلا أنه مراكثر من ربع قرن من تلك المراجعات ومازال أزمة الاحزاب الشيوعية واليسار العربي بل والعالمي تراوح مكانها وهذه ما سنتناول أسبابها في المرة القادمة .
وللتذكير بمراجعات الشيوعيين العرب لثورة اكتوبر الروسية وتجربة الدولة السوفييتية التي شيّدتها سنكتفي هنا ، على سبيل المثال ، بتناول إشارات سريعة إلى مساهمات ثلاثة من أبرز القيادات والباحثين الشيوعيين العرب من الذين تميزت مراجعاتهم بالجرأة المتناهية في نقد التجربة السوفييتية مع تركيزنا على انتقاداتهم المتعلقة بالمسألة الديمقراطية تحديداً ، وهم كل من ماهر الشريف ( فلسطين ) ، وكريم مروة ( لبنان ) ، وعامر عبدالله ( العراق ) .
وبادئاً ذي بدء نبادر إلى القول بأنه من الاستحالة فصل الأخطاء التي وقعت فيها التجربة السوفييتية بالمطلق عن أخطاء وثغرات في النظرية الماركسية سواءً التي صاغها ماركس وعُرفت بإسمه ، أم في التطويرات التنظيرية والفكرية للنظرية ذاتها التي قام بها لينين لاحقاً وشرع في تطبيقها في سني حياته الأخيرة بُعيد الثورة وغداة تأسيس الاتحاد السوفييتي والتي عُرفت لاحقاً في ادبيات الحزب الشيوعي السوفييتي وعامة الاحزاب الشيوعية في العالم ب " الماركسية اللينينية " وجرى تقديسها بمرتبة الدين لا يأتيها الباطل من بين يديه ولا من خلفه . وهذا ماأشار إليه الشريف نفسه في دراسته الموسومة " عن بعض مظاهر الماركسية ، مراجعة نقدية ، دار الينابيع ، دمشق 1995 " ، بأن ماركس رفض قرن إسهاماته النظرية في الفكر الاشتراكي بإسمه ( ص 25 ) . ومن أهم الاخطاء الخطيرة التي وقعت فيها التجربة السوفييتية وتناولها الشريف في هذه الدراسة إن لم يكن أخطرها المسألة الديمقراطية ومنها التعددية السياسية التي صادرها لينين برفضها حتى في إطار الفكر الاشتراكي الواحد ونزوعه لتكريس حكم الحزب الواحد ممثلاً في حزب البلاشفة ، وظهرت هذه البوادر عشية ثورة اكتوبر برفض البلاشفة نتائج انتخابات الجمعية التأسيسة التي فاز فيها الاشتراكيون الثوريون ب 58 % ، في حين لم يحصل البلاشفة سوى 25% وحصل المناشفة على 4% ، وكان كاوتسكي الذي وُصم بالانتهازية من أبرز من أنتقدوا إقدام البلاشفة على حل الجمعية التأسيسية مُتنبئاً بتحول النظام السوفييتي إلى نظام "بونابرتي " يستند الى ديكتاتورية بيروقراطية - بوليسية " و مصادرة الديمقراطية بإسم "ديمقراطية البروليتاريا " في مواجهة ما سُمي ب " ديمقراطية البرجوازية " وتتحول الديمقراطية السوفييتية إلى سلطة الحزب الواحد المطلقة ( ص 80 - 84 ) . وكما هو معروف فقد حذّر كاوتسكي أيضاً من عبادة نص " البيان الشيوعي " وجعله إنجيلا مُقدساً .
أما فيما يتعلق بإسهامات كريم مروّة نائب الأمين العام للحزب الشيوعي اللبناني السابق في نقد التجربة السوفييتية فلعلها الأكثر غزارة بين الشيوعيين العرب لكثرة ما صدر له من كتب ودراسات وومقالات صحفية ، على إننا سنكتفي بالاقتصار على ما يتصل منها بالمسألة الديمقراطية تحديداً . ينتقد مروة مصطلح " دكتاتورية البروليتاريا " الذي جاء به ماركس ويعتبره هو المسؤول عن خلق نمط من الاستبداد في التجربة الاشتراكية المنهارة بل وحتى داخل الأحزاب الشيوعية من خلال ممارساتها السياسية والتنظيمية والفكرية ، ويرجع خطأ وقوع ماركس فيه لعدم نضوج شروط قيام الديمقراطية في عصره بأشكالها الملموسة المعاصرة ، كما يؤكد مروة على أهمية التعددية في الحياة السياسية والاجتماعية كواحد من شروط وممارسة الديمقراطية . ( كريم مروة ، أفكار حول تحديث المشروع الاشتراكي ، التنوير ، 2013 ، بيروت ، ص 37 - 38 ) . كما يرى مروة بأن الحزب الواحد الذي ساد في التجربة الاشتراكية كان خاطئاً في المبدأ والشكل والجوهر ، ويدخل في هذا التصنيف حزب الطبقة العاملة الذي دعا ماركس وأنجلز إلى تأسيسه في البيان الشيوعي.
وأخيراً ففيما يتعلق بإسهامات القيادي في الحزب الشيوعي العراقي الراحل عامر عبد الله فقد تميز نقده للتجربة السوفييتية بالرصانة والمنهجية العلمية وذلك لاستناده على مصادر معلومات دقيقة وبالنظر أيضاً لتجربته وخبراته النضالية الفريدة من نوعها وبخاصة فيما يتعلق بإقاماته في فترات متعددة ومتفرقة في البلدان الاشتراكية وعلى الأخص الاتحاد السوفييتي ، ولعل أنضج تلك الاسهامات وأشملها ما دوّنه في دراسته التي صدرت في كتاب قبيل رحيله بسنوات قليلة بعنوان : " مقوضات النظام الاشتراكي العالمي وتوجهات النظام العالمي الجديد ، دار المدى ، دمشق ، 1997 "
ومن حيث الجوهر لا تكاد تختلف انتقادات عامر عبدالله الانتقادية الشديدة لتغييب الديمقراطية في النظام السوفييتي مما أدى إلى انهياره عن انتقادات الشريف ومروة الآنفة الذكر مع تسليطه الضوء بتوسع على كوارث الحقبة الستالينية الاستبدادية التي طاولت رؤوس خيرة قادة الحزب المفكرين وصفوة كبيرة من العلماء والمثقفين ، عدا مجاميع مليونية واسعة من كل الشعوب السوفياتية تقريباً وإن بدرجات متفاوتة ، وأرجع ذلك إلى وقوع اختلالات خطيرة في بنية النظرية والتطبيق والممارسة التعسفية المستندة إلى مبادئ وقواعد صارمة في نظام الحزب الحاكم حيث أتاح ذلك للقادة أحكام وسلطات مُطلقة كان من ثمارها المرة تصفيات جماعية مُذهلة لقادة الحزب استمرت طوال عقود( ص 86 - 88 ) .
أما في ظل التيار العريض للحركة العمالية والاشتراكية العالمية بتلاوينها فقط تكرست القطيعة التامة والمسديمة معها رغم مالرموز منها من أدوار ومآثر يمكن التحاور معها ويمكن الوصول إلى قواسم مشتركة بدلاً من خسارة الالتقاء معها بالمطلق ( ص 40 - 41 ) .
وفي هذا الصدد يشيد المؤلف بتجارب اشتراكية ديمقراطية ( السويد والدنمرك خصوصاً ) وصلت إلى السلطة عن طريق الانتخاب وسنت دساتير وأنظمة اجتماعية ديمقراطية وحققت نماذج مُلهمة مازالت شعوب كثيرة تتطلع إلى تحقيقها .
ويحمّل المؤلف " المركزية الديمقراطية " التي دعا إليها لينين في المؤتمر الثاني للحزب وما اُستمد منها لاحقاً من مفاهيم الانضباط الحديدي ، والطاعة العمياء ، والخضوع المُذل ، والعقوبات القاسية سبب ليس الانشقاق بين البلاشفة والمناشفة . ويشير بالإشادة الضمنية إلى معارضة المفكرة الشيوعية الفذة روزا لوكسمبرغ لمفهوم دكتاتورية البروليتاريا والتي دعت الى تكريس الديمقراطية في الحياة الداخلية للحزب وكذلك الانتخابات الديمقراطية وقالت : " إن انعدام الديمقراطية سيقود إلى وجود حفنة من القادة ، مع مجموعة من المتنفذين النشيطين ، وجمهور سلبي من من البروليتاريا ... وهذا لن يبني الاشتراكية " . ( ص 278 - 279 ) ،ويرجع عامر عبدالله الاستبداد الذي ساد في الاحزاب الاشتراكية في اوروبا الشرقية والانظمة التقدمية والثورية والوطنية في العالم الثالث لاقتدائها لا قتدائها بنموذج الحزب الشيوعي السوفييتي في تطبيق المركزية في حين ان هذا الحزب الستاليني تحوّل إلى هرم بيروقراطي متسلط يكرس وحدانية القائد وتبرر النخبة تسلطه فالحزب هو الدولة ، وهو المجتمع . واللجنة المركزية هي الحزب ، والمكتب السياسي هو اللجنة المركزية الحزب ، والزعيم القائد هو الحزب وهو السلطة وهو الدولة وهو النظام . ( ص 284 ) .
وإذ عمدنا إلى تناول نماذج من انتقادات الشيوعيين العرب للتجربة الاشتراكية السوفييتية بعد انهيارها فذلك لسببين : الأول ندرة المصادر الروسية المترجمة إلى العربية التي تناولت بالنقد هذه التجربة ، والثاني للتمهيد إلى استعراض جوانب من الأخطاء الفادحة التي وقعت فيها الاحزاب الشيوعية العربية من جراء اقتدائها المطلق بالحزب الشيوعي السوفييتي والتبعية له في كل سياساته ومواقفه .