المنبرالحر

لينين وصلح برست ليتوفيسك/ ناصر حسين

حال قيام ثورة اكتوبر وانتصارها باشرت زعامة الدولة بتشكيل الحرس الاحمر بديلاً عن الجيش القيصري الذي انهار تماماً.
ومعلوم ان اول المراسيم التي اصدرتها قيادة الثورة هو مرسوم السلام الذي يعلن انسحاب روسيا من الحرب الكونية ودعوتها الدول المتحاربة الى انهاء الحرب واحلال السلام بين الدول المختلفة .
المانيا استجابت للدعوة الروسية فهي كانت في حاجة ماسة الى انهاء القتال على الجبهة الروسية للتفرغ للقتال على الجبهة الغربية التي تعززت كثيراً بدخول الولايات المتحدة الاميركية الحرب ضد المانيا وحلفائها. واتفق الطرفان على الدخول في مفاوضات مباشرة لانهاء الحرب بين المانيا وروسيا. وتحدد مكان المفاوضات في قلعة بريست ليتوفيسك، وتشكل الوفد الروسي برئاسة تروتسكي الذي شغل بعد الثورة وزارة الخارجية.
طلب لينين من تروتسكي "مطمطة" المفاوضات وجعلها تستغرق أطول وقت ممكن لانه كان يرى ان المانيا ستهزم قريباً. وكان يتوقع ان الوفد الألماني سيطلب من الوفد الروسي التنازل لالمانيا عن الاراضي الروسية التي تحت سيطرتها. وفي ضوء حساب اسوأ الاحتمالات ابلغ تروتسكي بالتوقيع على الاتفاق اذا ما توجه الوفد الالماني الى الوفد الروسي بالانذار للتوقيع لان عدم التوقيع يعني استئناف القتال بين الدولتين وتوازن القوى في تلك الفترة ليس في صالح روسيا.
بدأت المفاوضات بين الوفدين وقد عمل تروتسكي فعلاً على مطمطة المفاوضات عملاً بتوصية لينين الا انه عندما وجه الوفد الالماني انذاره للوفد الروسي بوجوب التوقيع على الاتفاق خلال اربع وعشرين ساعة رفض تروتسكي التوقيع وغادر مكان المفاوضات عائداً الى العاصمة الروسية سانت بطرسبورج التي تغير اسمها بعد الثورة الى لينينغراد بعد ان ادلى بتصريح قال فيه (لا نوقع ولا نحارب) . الامر الذي اثار غضب لينين وانزعاجه . وقال له عندما وصل العاصمة (لا نوقع) . بامكاننا ان لا نوقع فذلك متروك لنا.
ولكن (لا نحارب)، هل ان امر استئناف الحرب من عدمه متروك لنا نحن؟
هم اصحاب القرار، ويستأنفون القتال حال انتهاء مدة الانذار، وقد استأنفوا القتال فعلاً فتصدى الحرس الاحمر ببسالة نادرة للقوات الالمانية. وتمكن من من الدفاع عن العاصمة ببطولة وعزم يليقان بالشيوعيين عندما يدافعون عن اراضي بلدانهم وسيادتها الوطنية وكرامتها، تماماً مثلما تصدوا لقوات المانيا الغازية مرة اخرى عندما اجتاحت الاراضي السوفياتية عام 1941 ووصلت الى مشارف العاصمة موسكو وهزموها وطاردوها عبر مختلف البلدان الاوروبية حتى اعادوها الى عاصمة بلدها برلين، واضطر قادة القوات المسلحة الالمانية الى التوقيع على وثيقة استسلام المانيا بدون قيد او شرط في التاسع من ايار عام 1945. امام الحالة الجديدة التي تسبب بها امتناع تروتسكي عن توقيع الاتفاق اضطر لينين الى اعفائه من منصبه كوزير للخارجية الروسية وتكليف بوخارين بتلك المهمة، وتقدم الى الالمان بطلب اعلان هدنة والدخول في مفاوضات جديدة، واستجاب الالمان للطلب فهم كانوا في حاجة الى التفرغ للجبهة الغربية كما ذكرت واستؤنفت المفاوضات بين الوفدين في نفس المكان – قلعة بريست ليتوفسك – واضطر الوفد الروسي الى التوقيع على الصلح، علماً بان الوفد الالماني اصر في المفاوضات الجديدة على ان يتنازل الروس لألمانيا عن كافة الاراضي الروسية التي تحت سيطرة القوات الالمانية بما في ذلك الاراضي التي سيطروا عليها بعد استئناف القتال.
وهكذا انتهت الحرب رسمياً بين الدولتين الالمانية والروسية.
ومما يذكر ان توقيع الوفد الروسي على تلك الاتفاقية اثار انتقادات واعتراضات داخلية واسعة، وابرزها كان القرار الذي اتخذته قيادة منظمة الحزب في موسكو التي اعتبرت ذلك الصلح مهيناً وان السلطة الجديدة : سلطة ثورة اكتوبر، اصبحت سلطة شكلية بحتة وقررت سحب الثقة من اللجنة المركزية للحزب. في مؤلفات لينين نجد اعتراضه ومناقشته لقرار منظمة موسكو وخصوصاً ما يتعلق منه بوصف السلطة في روسيا بانها اصبحت سلطة شكلية بحتة، وقد كرس لهذا الغرض مقالته التي حملت العنوان (فظيع وغريب). لقد كان لينين ينظر بعيداً الى اللحظة التي تنهار فيها المانيا وتنتهي الحرب الكونية الاولى التي تسببت بها هي نفسها وبذلك ستلغى تلقائياً اتفاقية صلح بريست وتعود الى روسيا كافة اراضيها التي تنازلت عنها مضطرة، فهي بذلك التوقيع حالت دون دخول القوات الالمانية العاصمة السوفياتية واسقاط السلطة الجديدة التي شكلها ثوار اكتوبر المجيد في روسيا. واعطى بذلك الدرس لسياسيي العالم من ان السياسة ليست نزهة على رصيف شارع نيفسكي في مدينة سانت بطرسبورج. ( الطويل، المستقيم، العريض، الجميل، المعبد ) كما ورد على لسان الديمقراطي الثوري الروسي المعروف تشيرنيشيفسكي. بل هي اشبه ما يكون بتسلق الجبل حيث تواجه المتسلق الكثير من المفاجآت كصخرة كبيرة حادة تضطره الى ان يلف حولها يميناً او يساراً، او ينقلع الوتد فيسقط ارضاً ويضطر الى محاولة التسلق من جديد بدءاً من الصفر وهكذا . وقد اجرى لينين هذه المقارنة في تقريره المقدم الى المؤتمر الثاني للكومنترن والمنشور تحت العنوان (مرض اليسارية الطفولي في الشيوعية). لقد انهارت المانيا فعلاً وتوقفت الحرب اواخر عام 1918 وعادت الى روسيا كافة الاراضي التي فرض على روسيا التنازل عنها بموجب صلح بريست ليتوفسك .