المنبرالحر

الفقر.....آفة من حجر / ئاشتي

تستوقفك الذاكرة عند عتبات خمسينات القرن الماضي، حيث نشأت وترعرعت في تلك المدينة الجنوبية الغارقة حد الحزن في متاهات الفاقة. تستجيب لنزعة العبث القروي حين تنظر إلى قدميك الحافيتين، أو حين ترى إلى طرف ثوبك الرخيص، والذي لا يختلف كثيرا عن ثياب أقرانك من أبناء المدينة. فقد كان التراب القاسم المشترك على أقدام الجميع، مثلما كان رغيف الخبز والتمر رفيقيكما اللذين لا تملون صحبتهما في كل الأوقات. كنتم تضيعون حينها بجدلية القدر الذي لا يمكن تجاوزه، إذ أنه ظلكم في الشارع والمدرسة والبيت، ولم تكن الطفولة بحكم براءتها تثير السخط والخجل من حالتكم تلك، بل كانت السعادة الساذجة ترتسم دوائر من أحلام في أذهانكم. يمر فصل الصيف سريعا رغم حرارته القاتلة، ولكن الشتاء كان غولا من ظلام يخيم في ليله البارد الذي لا ينفع معه موقد النار الضئيل ولا القصص عن بنت السلطان وأحلامها. يقرأ الجوع ويكتب ابجديته على جميع الوجوه، وتكتسب الامراض أسماء أخرى لها، وليس غير الفقر سلطان لا يمكن أن يخدش أحد كبرياءه، لأنه آفة من حجر..ومن يملك القدرة على مقاومة ما هو من حجر؟ لا سيما وان هذا الحجر.. قدر.
تستوقفك الذاكرة وأنت تعيش في بدايات الالفية الثالثة، وكأنها تريد منك أن تستعيد تلك الأيام، فليس هناك من فرق في مسارات الايام على ما يبدو. حيث تعداد نفوس العراق في الخمسينات تجاوز الستة ملايين بقليل والآن في بداية الالفية الثالثة هناك ستة ملايين عراقي يعيشون تحت مستوى خط الفقر. هكذا أشار تقرير بعثة الامم المتحدة في العراق(يونامي)، ولكن هناك فرقا يبدو غير ذي أهمية بالنسبة لحكامنا، وهو أن ميزانية العراق لهذا العام تجاوزت المائة مليار دولار، وأن تصدير العراق من النفط تجاوز مليونين ونصف المليون برميل يوميا، وأن عائدات النفط لشهر ايلول هذا العام فقط تجاوزت ستة مليارات ونصف المليار. وحكامنا يعرفون كل هذه الحقائق مثلما يعرفون اسباب هذا الفقر، ولكن ليس عندهم القدرة على تجاوز ( القدر) على ما يبدو، مثلما هو الاعصار(sainat jude )، رغم ان هذا الاعصار لم يسبب الكثير من الكوراث في بريطانيا لحد الآن. إلا أن الفقر يا حكامنا سبب وسوف يسبب الكثير من الكوارث، لأنه حقا آفة من حجر تطحن كل شيء تحت اسنانها.
تستوقفك ذاكرتك وأنت تستعيد فريدريش نيتشه وهو يخاطب فقر أكثر الناس غنى، وكأنه يتكلم بحزن جروحك:
«عشرة أعوام مرت
ولا قطرة واحدة قد وصلتني،
لا ندى حب، لا ريح رطبة،
موطن قاحل ..
أتوسل الآن حكمتي
ألا تكوني ضنينة بهذا القحط».