المنبرالحر

أبرز التحديات التي تواجه المواطنة في العراق / ولاء الغرابي

إن التاريخ الشاهد يفيد أن قيمة المواطنة هي وحدها التي يمكن أن تحّول مجتمعا ما، من مجتمع جماعات عضوية متناحرة إلى مجتمع ذي مؤسسات مدنية ممثلة، لان المواطنة في الدولة الديمقراطية يجب أن تكون عبارة عن عضوية في الدولة إذا كانت هذه الدولة تعكس حق التمثل لجماعة أو لعدة جماعات، وأن تكون هي القاعدة لحالة حوار بين جماعات.
‎وهذه المواطنة هي القادرة على بناء وطنية حقيقية قائمة على تشكيل روابط من التضامن والاعتراف المتبادل والتعاون الشامل لا تنال منها الاختلافات العقائدية ‎والمذهبية والعروشية والجهوية.
‎إن هذا البناء الوطني الذي يقوم على انتماء المواطن للدولة، إنما هو اليوم الارضية التحتية التي لا يمكن أن تقوم بدونها حياة سياسية ديمقراطية حقيقية.
لقد عانى العراق منذ تأسيس الدولة العراقية والى الان ، من عدم استقرار سياسي ، فشهد انقلابات عديدة وانظمة حكم قمعية، وكأن قدر العراق ان يستمر خاضعاً لحكومات سياسية جاهلة او مستبدة او عميلة، تعاقبت على حكمه ، واضعة اياه في دوامة اقتتال واحتراب، لم تتركه يهجع او يقر له قرار.
فبعد سقوط نظام صدام عام 2003 والى وقتنا الحاضر، شهد العراق مرحلة انتقالية ومنعطفا جديدا في تأريخه السياسي.
فكشفت المرحلة الراهنة عن توق المواطن العراقي الى تحقيق المواطنة الحقة، المبنية على احترام حرياته وحقوقه، وتأمين العدالة الاجتماعية للجميع.
لكن هذه المرحلة كشفت ايضاً عن واقع طالما بقي محجوباً وراء المقاربات الشمولية والايديولوجية للمجتمع، الا وهو التنوع والاختلاف الفكري والثقافي والسياسي والديني، وغياب الخبرة والمعرفة في ادارة هذا التنوع في سياق الحياة الوطنية.
هذا ما ادخل البلد في ازمة حقيقية تتنازعها حالة من الاستقطاب والانقسامات، مرتبطة بعدم وضوح الهوية الوطنية، وكيفية التعامل مع هذه التعددية، وسبل بناء التناغم بين ابناء الشعب الواحد ، ومن ابرز تلك التحديات:
غياب الديمقراطية او ضعفها :
عملت جميع الاحزاب التي تسلمت السلطة بعد 2003 بكافة توجهاتها ومذاهبها، على تكريس الخطاب الطائفي، واخذت تؤسس لثقافة طائفية بين المواطنين، لذلك ساد المجتمع شكل من اشكال الاستقطاب الطائفي، وسعت الاحزاب التي تسلمت مقاليد الحكم بكل ما تملك، الى الاستئثار بالسلطة، ومارست سياسة الاقصاء والتهميش والتضييق على الحريات الفردية والثقافية، مما ادى الى تقليل فرص التفاعل بين المواطنين، وحرم المجتمع من الابداع الذي هو نتيجة هذا التفاعل الحر وروح المبادرة غير المقيدة، كما كان هذا النقص في الديمقراطية، في بعض الحالات مدخلاً للتمييز بين المواطنين ومدى نيلهم حقوقهم الفردية والمدنية والسياسية، مما سبب تداعيات اجتماعية وحقوقية واسعة. ولو كان هناك نظام ديمقراطي، لما حدث الذي حدث في العراق، لان الديمقراطية تؤدي الى الانسجام والتجانس بين افراد الشعب وقومياته، من خلال الضمانات التي تقدمها للشعب من حقوق وحريات ومساواة بين المواطنين، وسيادة القانون ، وقضاء مستقل يحمي حقوق المواطنين وحرياتهم من اي انتهاك ومن اي جهة كانت ، مهما كان مركزها الوظيفي في الدولة.
التعصب الديني والولاءات الضيقة:
التعصب الديني والقومي والتحامل الاجتماعي والثقافي الذي ينتج من الخطابات الفئوية المنغلقة على ذاتها والرافضة للاختلاف والتنوع، على مستوى الجماعات الدينية او الثقافية او الاثنية او القبلية الخاصة. هذا التعصب يمنع الانسان من الانفتاح على مواجهة الفكرة المضادة بعدالة وموضوعية، ويجعله في موقع الاصرار على ان الصواب معه بينما يكون الخطأ في موقف خصمه على طول الخط – كما يقولون – وربما ينتهي به الامر الى اغفال الموضوع بالكلية والهروب من عمليات الاثارة الذاتية له، فيبقى القديم على قدمه في ذلك الموضوع من دون ان نلاحقه بالجديد الذي يقلب المعادلة الى اتجاه اخر لتظل الامور كالحلقة المفرغة التي لا يدرى اين طرفاها، ويبقى الحوار جهداً ضائعاً لا غنى فيه ولا فائدة ، ما دام كل واحد مصراً على ان لا يتزحزح عن موقفه.
غياب المعرفة بالآخر وضعف ثقافة الحوار :
يلصق هذا الفريق او ذاك الاكاذيب والافتراءات بالفريق الاخر، من دون محاكمة او تحقيق حول اثبات صحة هذه الاكاذيب او عدم صحتها، الأمر الذي يحاول فيه ان يسجل على الفريق الآخر اشياء لا يقولها من دون ان يفسح له المجال، بل ربما يغفل الابحاث والردود التي يراد من خلالها ابطال بعض الافكار او تصحيح بعض الاشتباهات والالتباسات فلا يلقي لها الاخرون بالا، بل يتجاوزونها لئلا تقف عقبةً في طريق التنفيس عن العقدة الطائفية الكامنة في النفس بطريقة شعورية او لا شعورية. كما ان ضعف ثقافة الحوار التي تسعى الى الاثراء المتبادل بين المجموعات المتعددة ، وعدم اهتمام التربية والمناهج التعليمية باضاءة على الارث المتنوع داخل الوطن وعلى تقديم قراءة شاملة للتاريخ الوطني والذاكرة الجمعية، واعتماد الفوقية من قبل بعض الفئات الاجتماعية او السياسية او العرقية تجاه الجماعات الاخرى، يؤدي في كثير من الاحوال الى نمو التعصب في المجتمع ويصل في بعض الحالات الى العنف تجاه الاقليات او المختلفين ثقافياً او دينياً.
ضعف الفكر النقدي والاتباع الاعمى:
يؤدي ضعف الفكر النقدي الى تعطيل العقل، والقبول ببديهيات ومسلمات بدون براهين، وادعاء امتلاك الحقيقة المطلقة، بينما يعتبر الآخرين على ضلال ، ويدفع الى التعصب وانعزال الفرد عن الهموم الجماعية والانسانية. فعلى سبيل المثال، لعب حديث الفرقة الناجية دوراً في تقطيع اوصال الامة وتفتيتها وتناحرها لفترات طويلة، لانه يبيح بشكل مباشر او غير مباشر، باعتبار الاطراف الاخرى، فرقا ضالة، ووصل الحال ان تجد هذا المعنى داخل المذهب والواحد، والغريب ان حديث الفرقة الناجية لم يرو في المجاميع الحديثية المعتبرة، ولم يرد في صحيح البخاري او صحيح مسلم، ولم تحز اي من رواياته على شروط الصحة المعتبرة في الصحاح من كتب الحديث النبوي الشريف. ولكن تجد كل فرقة من الفرق الاسلامية تتشبث بهذا الحديث، فـ (كل حزب بما لديهم فرحون). ان الاتباع الاعمى والتقليد، على حد قول بعض المفكرين هو التمثيل الاجتماعي، فنحن فنانون عاكفون على تمثيل مسرحية كتب لها السيناريو شخص آخر، وساق مجريات احداثها كما يشتهي ويريد، يقول الشاعر جلال الدين الرومي في هذا، اشارة لهذا المعنى: التقليد جعل الناس في مهب الريح اللعنة على هذا التقليد القبيح.
هيمنة النزعة الشمولية:
تاريخياً ، نزعت بعض الانظمة الى محو التنوع والتعددية في سعيها للتوحيد القسري للفئات الاجتماعية والسياسية المتعددة، ومحاولة فرض الثقافة الاحادية، والايدولوجيات الشمولية والانصهارية، حتى في بعض الحالات عبر مؤسسات الدولة المختلفة. فالمجتمع الشمولي الذي يعيش فيه الافراد مثل الرمل والحصى، هؤلاء الافراد المجزؤون يشكلون المجتمع الشمولي الذي يدار بواسطة الدولة او الحزب او الهيئة الحاكمة، ولا يوجد بين اعضاء هذا المجتمع اي تفاعل اجتماعي وترابط متقابل وتفاهم داخلي. فارتباط الفرد بالمجتمع الشمولي لا يمثل ارتباطاً واعياً وعقلانياً وانتخابياً، بل يعيش الافراد في اجواء عاطفية شديدة، فينضم بعضهم الى البعض الآخر، ويتحركون بفعل الجاذبية التي تسيطر عليهم من الاعلى، وبعبارة اخرى انهم منفعلون تجاه المؤثرات والايحاءات المسلطة عليهم. وهذا ما يفقد المجتمع المدني حيويته ويجعله عاجزا عن تقديم اسهاماته في تطوير الحياة الاجتماعية والمساحات العامة، عبر تفاعل مكونات المجتمع على تنوعها واختلافها بحرية خلاقة.
العنف ضد الاخر:
يأخذ العنف اشكالاً متعددة ومختلفة ، خاصة اذا كان مبنيا على التمييز بين الناس، فقد يكون احياناً غير مباشر عبر تهميش مناطق معينة وحرمانها من التنمية والخدمات العامة. ويكون ايضاً عبر تجييش الرأي العام في الاعلام او الخطاب السياسي او الديني ضد فئة من الناس وقد يتحول هذا العنف الى صراعات داخل المجتمع او تعدّ على مجموعات من الناس واملاكهم. وفي حده الاقصى يصل العنف احياناً الى قتل الاخر، الذي يمثل الاختلاف الفكري او الثقافي او السياسي، وعلى مستوى اشمل يفتح الباب امام الحرب الاهلية، بين ابناء المجتمع الواحد. ومن هنا تكمن اهمية حصر القوة بيد الدولة، التي عليها تأمين الامن للجميع، كما انه لا بد ان ترافق ثقافة التنوع مع التربية على اللاعنف والديمقراطية والاحتكام الى المؤسسات الشرعية.