المنبرالحر

التاريخ في خطر! / عبد المنعم الاعسم

كيف سيُكتب تاريخ العراق؟ ومن الذي سيكتبه؟ سؤالان أكاديميان يطرحهما معنيون بالتدوين وبتسجيل الأحداث الكبرى، بمناسبة ما يقال، الآن، عن نيات تتجه نحو تشكيل هيئات «إعادة كتابة التاريخ على أساس عادل» يجري إخراجها بغطاء رسمي ناعم، رفق حديث إنشائي عن ضرورة احترام «الحقائق التاريخية». والخشية أن تنضم هذه المحاولة الى سلسلة الألغام التي دُسّت تحت صفيحة هذه البلاد، وهي أوهام، شاء أصحابها أم أبوا، ستقتفي اثر الأوهام السابقة المسجلة باسم صدام حسين، إذ انتحرت على أبواب المعارف الجديدة في قراءة التاريخ، وانتهت الى وجبة ?يئة من التلخيصات البائسة.
السؤال الاعتراضي الوجيه بصدد الحديث عن العدالة في النظر الى الماضي يطرح نفسه على الوجه التالي: هل أنهم شيدوا حاضرا عادلا لكي يعيدوا تشييد أحداث الماضي على قاعدة العدالة؟
السلطة، وكذلك العبادات، لا يكتبان تاريخا. إنهما يكتبان أساطير وبطولات وحقائق جرى ليّها. أما الحقائق كما هي، فهي صنعة أولئك المغضوب عليهم، المجلودة ظهورهم، من الشهود والرواة والعلماء والشهداء، الفارّين من الطوائف والعصبيات والولاءات، الذين اشتغلوا على محركات الأحداث الموصولة بصراع البقاء وأكاسير الحق، وسجلوا الوقائع من دون أن يتلفتوا خوفا من بطانات الحاكم، أو ينتظروا «عفارم» زبانيته، بل أنهم أصحاب فكرة مزبلة التاريخ حين دحرجوا الطغاة وأنظمة الاستبداد والمزورين وأعداء الحرية الى تلك النهاية التي تليق بهم.
والحق انه لا يزال الكثير من الصواب التاريخي في ما بين طيات الكتب والمدونات المهملة فلو عدنا الى رواية «وداعا يا غولساري» لجنكيز ايتماتوف، والى رواية «السيد الرئيس» لاوسترياس سنجد أننا لم نلتقط كفاية تلك الحقائق العميقة في ما بين السطور ذات الصلة بفحوى التاريخ. يكفي أن نتذكر أن ايتماتوف كان يسأل ثائرا عما دفعه الى الثورة فكان الأخير يجيب «لا أتذكر» ولكن ايتماتوف، مثلنا، كان سليم النية، بل وكان صادقا في كفاحه من اجل الحرية الى ابعد الحدود.
القضية برمتها بسيطة، فان ما يعتبر حقيقة في جانب من جبال البرانس (كما يقول باسكال) يعتبر لا حقيقي في الجانب الآخر، وقد أخطأنا (في العراق) كثيراً في تدوين يوميات ثورة العشرين، مثلا، بل وأخطأنا قراءة انتباهات علي الوردي في ما حول تضادات الأحداث، وكررنا خطيئة النظر الى تلك الثورة من وجهها المشرق، فيما ثمة وجوه أخرى بقيت طي الإهمال، ربما لأسباب تتعلق بهيمنة الثقافة السائدة والممنوعات التي تتخذ شكل نصائح. والنتيجة أن أجيالا متعاقبة التهمت صفحات كثيرة من الكلام المغشوش عما حدث. وحدث شيء من هذا القبيل بصدد «ثورة ?موز» وهوية حكم قاسم وخطاياه.
إن العلوم الحديثة تحذرنا مما يُبيّت ضد التاريخ، وما يقال على أنها حقائق تاريخية. وكان غاليلو والكندي واسحاق نيوتن وليوناردو دافنشي وفيكتور هيجو والحلاج، وغيرهم كثيرون قلبوا سياق الكتابة عن التاريخ فلم يرووا لنا أساطير منفوخٌ في بطولتها، ولم يعنوا بمكائد القصور ومؤامرات الخلفاء والأباطرة، ولم يكن ليعنيهم مرضاة صاحب السلطة والنعمة. وهكذا ساعدوا على تصويب المرويات المغشوشة والزيادات المنافية للعقل، والتحذير من أولئك المتباكين بدموع التماسيح على التاريخ فيما ويسعون الى كتابته مجددا على أساس المحاصصة، حيث نكتش? أن التماسيح لا تذرف الدموع لسبب بسيط هو أنها لا تملك غددا دمعية.
***********
«الحَسَن ما حَسَّنه العقل، والقبيح ما قبَّحَه العقل».
ابن رشد