المنبرالحر

الـبـطـالة : قـُنبلة قـابلة للانفجار.. فـما الـعمل؟ / د. مجيد مسعود

منظمة العمل الدولية تـُعرّف العاطل عن العمل بأنه : "كل من هو قادر على العمل وراغب فيه، ويبحث عنه ، ويقبله عند مسـتوى الأجر السـائد، ولكن دون جدوى". إن كان يدخل سوق العمل لأول مرة، أو العاطلين الذين سـبق لهم العمل واضطروا لتركه لأي سبب من الأسباب.
وحسـاب معدل البطالة يكون على أساس نسبة عدد العاطلين إلى قوة العمل، ويتحقق ذلك عادة عند إجراء التعداد العام للسـكان والمنشـآت. أو من خلال مسوحات للعينة تقوم بها الجهات الإحصائية المختصة بين فترة وأخرى. وهي مهمة ليست سهلة من الناحية الفنية والمفاهيمية الإجرائية. وبالتالي تكون النتائج تقديرية، وقد تختلف باختلاف منهجية الحساب والمفاهيم المعتمدة.
وعند التفاصيل فقد يـُحسب معدل البطالة على أساس النسبة إلى الجنس "ذكور وإناث"، أو على أساس الريف والحضر، أو على أساس المحافظات، أو على أساس العمر.....الخ.
يـتبيّن من بعض المسـوحات عن البطالة، بـأن معدلاتها بين العمال أعلى منها بين المهنيين من أصحاب الشـهادات الجامعية، وبين النساء أعلى منها بين الرجال، وبين الشباب أعلى منها بين الكبار. وهناك بطالة قصيرة الأجل، وأخرى متوسطة الأجل، وثالثة طويلة الأجل "أكثر من ســنة".
يمر الاقتصاد الوطني بـ "دورات اقتصادية" تتراوح فيما بين الكســاد والانتعاش، وبالتالي تنتج عن هذه الظاهرة تقلبات في الطلب على العمالة وما يواكبها من تقلبات في معدل البطالة. وعند الكساد يرتفع معدل البطالة، وعند الرواج يحصل العكس، أي انخفاض معدل البطالة، والبطالة هنا تسمى بـ البطالة الدورية. أما البطالة الاحتكاكية، فهي التي تحدث بسبب التنقلات المستمرة للعاملين من المناطق والمهن المختلفة. أما البطالة الهيكلية، فيوضحها الدكتور رمزي زكي * بقوله: ذلك النـوع الذي يـُصيب جانباً من قوة العمل ، بسبب تغيرات هيكلية تحدث في الاقتصاد الوطني، وتؤدي إلى إيجاد حالة عدم التوافق بين فرص التوظيف المتاحة ومؤهلات وخبرات العمال المتعطلين الراغبين في العمل والباحثين عنه. أي أننا هنا نواجه بحالة فائض في سوق عمل ما، وفائض طلب في سوق عمل آخر. ويظل هذا الاختلال قائماً إلى أن تتوافق قوى العرض مع قوى الطلب للقوى العاملة.
والمقصود بـالبطالة السـافرة، حالة التعطل الظاهر التي يـُعاني منها جزء من قوة العمل المتاحة. أما البطالة المقنعة، فهي تلك الحالة التي يتكدس فيها عدد كبير من العمال بشكل يفوق الحاجة الفعلية للعمل، بحيث إذا ما سـُحبت من أماكن عملها فإن حجم الإنتاج والخدمات لن ينخفض.
والبطالة الاختيارية، هي حالة يتعطل فيها العامل بمحض اختياره وإرادته. أما حالة البطالة الإجبارية، فهي الحالة التي يتعطل فيها العامل بشكل جبري، أي من غير إرادته أو اختياره، وهي موضع اهتمامنا في هذه المقالة الموجزة.
وعند الحديث عن العمالة الكاملة " التوظيف الكامل" فهذا لا يعني الاختفاء الكامل للبطالة، حيث ستظل هناك بطالة احتكاكية وبطالة هيكلية ، كما سبق الإشارة لتعريفهما، ويـُشــار لهذه الحالة بـمعدل البطالة الطبيعي.
ولمعالجة مشكلة البطالة ينبغى أن يتوفر تصور حقيقي عنها، من حيث أعداد المتعطلين عن العمل، وأماكن إقامتهم، والمهن التي يزاولونها وأعمارهم وتعليمهم وجنسهم وسبب تعطلهم، ومدة بطالتهم.... الخ.
يـُوضح الدكتور رمزي زكي بأن مشـكلة البطالة ما زالت هي المشـكلة الأولى التي تـُهدد بانفجار الوضع الاقتصادي، والاجتماعي والسياسي، في البلدان الرأسمالية، و بلداننا هي الأخرى مـُرشحة لذات المصير. لقد تمخضت مشكلة البطالة في البلدان الصناعية عن بروز كثير من المشكلات كالعنف وانتشار الجريمة وإدمان المخدرات والتفكك العائلي، وبروز نزعات يمينية وشوفينية متطرفة. بل هناك من يـُشير إلى زيادة انتشار الأمراض النفسية والعقلية من جراء تفاقم البطالة. ولم تـُخفف إعانات البطالة عندهم من استمرار هذه الظاهرة السلبية.
وفي البلدان التي كانت اشتراكية وتحولت نحو الرأســمالية خسرت القوى العاملة فيها "مزايا الاشــتراكية" في مجالات الضمان الاجتماعي والأمن الوظيفي والحماية الاجتماعية، كما أنها لم تحصل على "مزايا الرأسمالية" في مجالات الاسـتهلاك الترفي، وأخذت تتســرب إلى بيئتها ذات الأمراض الناجمة عن البطالة.
وفيما يخص العراق نلاحظ زيادة معدلات النمو السكاني كنتيجة لانخفاض معدل الوفيات بسبب التحسن النســـبي للأحوال الصحية، في الوقت الذي ظل فيه معدل المواليد مرتفعاً. ولهذا تأثر الهرم الســكاني حيث أصبح يعكس قاعدة سكان شبابية واسعة، سرعان ما ستفرز زيادة كبيرة في قوة العمل. وتشـــير التقديرات إلى أن نمو قوة العمل بمعدل سنوي يتراوح مابين 3 و4 بالمائة. ولهذا تتراوح التقديرات لحجم البطالة في العراق فيما بين 30 و40 بالمائة من قوة العمل.
والأسباب الرئيسية باختصار تكمن في قلة فرص العمل الجديدة في القطاع العام والمشترك والخاص والتعاوني، وذلك لتعثر محاولات التنمية، وغياب الاستراتيجية التنموية الشاملة، وشيوع الفساد بكل أبعاده واضطراب الوضع الأمني.... الخ. وحتى عندما تتوفر نسبياً فرص عمل جديدة، فإنها تصطدم بعدم مواءمة مخرجات التعليم والتدريب مع احتياجات سوق العمل هذه.
لقد أوضح الشــهيد يوسف سلمان "فهد" في كراســته عن "البطالة أســبابها وعلاجها" الذي صدر عام 1946 "أن البطالة لا يمكن البحث عن أسبابها وعلاجها دون البحث عن العوامل المحركة لاقتصادنا كجزء من الاقتصاد الاحتكاري العالمي. الذي له قوانينه وتناقضاته المهلكة المدمرة للقوى المنتجة بصورة عامة وللأيدي العاملة بصورة خاصة".
وأكد فـهد بهذه الكراسة عن البطالة أن العراق "لو استثمر ثرواته النفطية بأمانة لصالح النفع الوطني، لوظفت حقول صناعة النفط هذه جميع الأيدي العاملة العاطلة في المدن والأرياف". وأضاف فهد "التفتيش عن داء البطالة، يجب أن يجري في حقول النفط قبل أي مكان آخر ... وفي قيام صناعة نفطية حقيقية تخدم مصالح شعبنا".
وفي تعبير اقتصادي مـُكثف عن هذا التوجه الاسـتراتيجي، كما كان ينادي الشــــهيد الدكتور محمد سـلمان حســن بــ "دمج الصناعة النفطية بالاقتصاد الوطني"، أي بعدم الاكتفاء بعوائد النفط المالية من صناعة اســتخراج النفط وتصديره خاماً للخارج.
ومن الحلول المطلوبة الســــريعة لمشكلة البطالة نـُشـــير باختصار إلى ما يلي:
التعجيل في تنفيذ التعداد العام للســكان والمنشــآت، وما يفرزه من فرص عمل كثيرة.
تعديل ظروف ســـوق العمل بتشــجيع المشــروعات الصغيرة والمتوسطة لا سيما كثيفة العمالة، وتطوير نظم المعلومات لســـوق العمل وشفافيتها.
تأهيل القوى العاملة بالتدريب وإعادة التدريب لزيادة انتاجيتها مما يخفض كلفة العمل.
الارتفاع بمعدل النمو الاقتصادي لا سيما خارج الصناعة النفطية الاستخراجية.
تشــغيل الطاقات الانتاجية العاطلة الموجودة، بعد إعادة تأهيل مؤسسات ومعامل القطاع العام بشكل خاص التي دمرتها الحروب والإهمال.
التوقف عن إجراءات الخصخصة التي يحدث من جرائها الاستغناء عن العديد من القوى العاملة ودفعهم لجيش العاطلين عن العمل.
دعم وحماية القطاع الخاص المحلي المنتج، وبشكل خاص كثيف الاستخدام للعمالة في المدن والريف. تفعيل الحملة الوطنية لمحو الأمية، التي شكا بعض المسـؤولين عنها بقلة الكادر وشحة التمويل. ويجب جعل المحافظات تتنافس في هذا المجهود النهضوي والذي يفتح آلاف فرص العمل للمحتاجين لها والعاطلين حالياً.
التســـريع بتنفيذ برامج الإسكان، فهي توفر الســكن الملائم لا سيما لســكان العشوائيات، وتفتح آلاف فرص العمل المتعددة وتنشطها إضافة لصناعات مواد البناء والمهن الأخرى المكملة للمستلزمات والخدمات المرافقة لها.
اســــتحداث برامج ســـريعة لحملات تنظيف البيئة وتخليصها من مخاطر الألغام وبقايا الحروب، وتنظيف الأنهار وفروعها من المخلفات الضارة بها.
تشجيع التقاعد المبكر لإتاحة فرص العمل للجيل الجديد من الشباب، وسن قوانين تحمي مصالح العمال وتأمين الضمان الاجتماعي الذي يقيهم عوز البطالة والشيخوخة.
أما الحلول المســـــــتـقبلية فتتطلب توجهاً سياسياً تنموياً واضحاً في ضوء اســتراتيجية تنموية شــاملة مســتدامة. تعمل على تحويل الاقتصاد الريعي الراهن إلى اقتصاد منتج متنوع ومتشابك. وأن يكون للدولة الدور الحاكم في الشأن الاقتصادي باســـتخدام التخطيط المرن وأدوات السـياسات الاقتصادية والاجتماعية الملائمة، مع مراعاة قوى السوق وآلياتها، في إطار سوق عراقية موحدة ومتجانسة. وهذا يتطلب زيادة الاستثمار في الصناعة والزراعة والبنى التحتية والخدمات بأنواعها. النقل والاتصالات والكهرباء والماء والصحة والتعليم وذلك وفق أولويات مبررة علمياً، مع حساب عامل الزمن فالوقت من ذهب.
إن المواجهة الجادة لمشكلة البطالة قد دعت منظمة العمل الدولية، وكذلك مؤتمر القمة العالمية للتنمية الاجتماعية في كوبنهاغن، لتوجيه الدعوة لمختلف دول العالم والعراق منها- بضرورة العودة لتبني هدف التوظيف الكامل لمكافحة الفقر والبطالة، وأن تكون لذلك الهدف أولوية أساسية، في الســياســات الاقتصادية والاجتماعية للدول وللتعاون الدولي.
ـــــــــــــــــــــــ
*الدكتور رمزي زكي: الصديق الغائب جســدياً والحاضر بأفكاره النيرة، فلقد زاملته لســنوات في عضوية الهيئة العلمية للمعهد العربي للتخطيط بالكويت، فعرفت فيه الإنسان الذي ينضح محبة وتواضعاً، والعالم الاقتصادي الباحث بدأب، حيث ترك لنا 28 كتاباً. وقد كتبت عنه مودعاً في مقالة بمجلة "النهج" بعددها المؤرخ 27/2001 م.
وفي هذه الســـطور اسـتفدت كثيراً من كتابه الهام: "الاقتصاد السياسي للبطالة"، الصادر بالكويت ضمن سـلسـلة عالم المعرفة ، وهـو بـ 519صفحات.
الـذكـرُ الـطيـّـب لك أيـّها الـصديـق الـذي لا نـنـســـــــاه.