المنبرالحر

أفُقر العالم أشد أم فقر العراقيين / د. ناهدة محمد علي

لقد نشأنا في بلد إمتلأ بالثروات الطبيعية بكل ألوانها وأشكالها ولم أشعر بالفاقة يوماً لكني أحببت الفقراء دائماً ( أحببت بائعة اللبن وبائع الطيارات الورقية , وبائع الحطب الذي أذكر أنه كان رجلاً مسناً ينوء تحت ( حزمة حطبه ) , وحين سألته ذات يوم لِمَ لا يحمل الحزمة عنك أولادك , إبتسم بمرارة وذهب بعيداً , وأصبحت أتساءل لِمَ يعيش البعض في يسر دائم والبعض الآخر في عسر ومرارة دائمة , إنه الظلم بعينه وهو ما نخططه نحن البشر لكي يُتخم البعض ويجوع البعض الآخر . أصبحت إقرأ الكثير عن جوع الفقراء وعن هدف غنى البعض القليل وفقر البعض الكثير .
قرأت ذات يوم أن ثروة 200 من أغنى أغنياء العالم تتجاوز نسبتها مجموع دخل 41% من سكان العالم علماً بأنهم لو تنازلوا عن 1% من هذه الثروة لصالح الفقراء لغَطت تكاليف الدراسة الإبتدائية لكل الأطفال في الدول النامية . وإذا ما إلتجأت الدول الفقيرة للمساعدات الدولية فقيمتها أقل من كلفة غذاء القطط والكلاب لستة أيام في الدول الغنية .
إن المساعدات الدولية تتركز في الغذاء والخيم وأحياناً قناني الماء الصالح , لكن هذه المساعدات في كثير من الدول الفقيرة تمر من خلال الحكومات الفاسدة وتدخل الحدود ثم تدخل الى جيوب المتسلطين بإختلاف درجاتهم ويموت بعدها حوالي 35 ألف طفل يومياً بسبب الجوع والمرض .
أسباب الفقر في العالم وفي العراق .
1 – يُرجع البعض الفقر الى ظاهرة العولمة لأنها سلاح ذو حدين , فهي لصالح البلد إذا أحسن إستعمالها ولم تهرب من خلالها رؤوس الأموال الوطنية الى الخارج بل تستثمر ويستثمر معها رؤوس الأموال الأجنبية , وكما يقول ( جون ستجلتيز ) الخبير الإقتصادي السابق في البنك الدولي ( إن الدول الآسيوية التي إنتفعت من العولمة هي تلك التي أدارت العولمة بطريقتها , أما البلدان التي تضررت وهي الغالبية فهي التي أخضعت نفسها لأحكام الشركات الكبرى والمنظمات الإقتصادية الدولية ) .
2 – السياسات الإستعمارية والحروب الداخلية : - إن دكتاتورية السلطات قد أدت الى حروب محلية كثيرة لغرض فرض سلطة الحزب الواحد والرجل الواحد وقد أدى هذا الى إستنزاف الكثير من الثروات الطبيعية وبضمنها الثروات البشرية , وأدت السياسات الإستعمارية لإدارة العالم والسيطرة عليه الى إفقار الدول النامية وأعقب ذلك الكثير من الحروب الإقتصادية والغزو الإقتصادي للبضائع الكاسدة والفاسدة , وأعقبه ايضاً الحصار الإقتصادي لتحديد النشاط الإقتصادي والصناعي للدول النامية وقد أدى هذا الى إفقار شديد لمواقع غنية في العالم كالعراق وليبيا وأفغانستان وأدى ايضاً الى كوارث بشرية وإقتصادية كما حدث في الدول المذكورة أعلاه وفي فلسطين . إن ما يعقب الحروب العسكرية والإقتصادية هي مصائب أخرى تتحملها الشعوب الفقيرة , ألا وهي الديون , فبدلاً من أن تدفع الدول الإستعمارية تعويضات لإستغلالها ثروات البلاد تقوم بإثقال كاهل تلك الدول بالديون لقاء خدمات لم تُطلب وغزو لم تطلبه الشعوب الفقيرة .
3 – سوء التخطيط الإقتصادي والفساد الإداري .
إن هذا ما تتميز به معظم الدول النامية والفقيرة فليس هناك تخطيط مدروس لإستثمار الثروات المحلية وإدارتها بالتزامن مع إستثمار الثروات البشرية بتطوير النظام التعليمي ورفع المستوى العلمي والتعاون مع الدول المجاورة لأجل التكامل الإقتصادي وهذا ما يمكن أن يحدث للدول الأفريقية المتجاورة أو الدول العربية , إلا أن الذي يحدث هو أن رؤوس الأموال الأجنبية تدخل لتستثمر ثم يُعطى القليل من نتائج إستثمارها للبلد المعني وتحتفظ بالكثير , وما يُستحصل من إستثمار الثروات يُساء إستخدامه ولا تبنى به قاعدة مادية متينة أو تُطور به الثروات البشرية والقدرات العلمية والإبداعية .
إن الكثير من الدراسات تحدد مقدار دولار في اليوم كحد للفقر وهو ما حدده البنك الدولي لكن هذه النسبة متحركة حسب إرتفاع وإنخفاض أسعار الغذاء والماء والدواء والسكن وهي تختلف من دولة الى أخرى , فما يُعتبر حدوداً للفقر في آسيا وأفريقيا ليس هو بالضرورة في أمريكا أو في الدول الغربية حيث يُقاس وفق المقاييس الدنيا للنفقات المنزلية ونفقات الطعام والملبس والمسكن والصحة والتعليم , ولا نستغرب إذا علمنا أن هناك ( 30 ) مليون فرد يعيشون تحت خط الفقر في الولايات المتحدة الأمريكية أي 15% من السكان .
إن مفهوم دائرة الفقر هو واسع ويضم حوالي 45 دولة من دول العالم معظمها في أفريقيا , لكن المقياس مختلف ما بين فقر الدول الأفريقية وفقر الفقراء في أمريكا الشمالية .
إن معدلات النمو الإقتصادي السريع وإستثمار الثروات بشكله الصحيح مع تطوير القدرات البشرية ورفع المستوى العلمي والمهني للتعليم ساعد الكثير من الدول على التقليل من مستوى الفقر وعدد الفقراء فإنخفض عدد الفقراء في 2005 – 2008 في الهند والصين بفضل معدلات النمو العالية التي حُققت في السنوات الماضية .
إن الفقر في العالم له إسس وأسباب ونتائج وقد ذكرنا أسبابه وتبقى نتائجه كثيرة ومتشعبة , منها نتائج إقتصادية وإجتماعية , حيث تتقلص القدرات الإنتاجية للقطاع العام والخاص ويشح تواجد الصناعات بإنواعها بسبب محدودية الميزانية العامة للدولة وإنتشار البطالة مع شحة التداول الغذائي والدوائي والإعماري وغيره . أما نتائجه فتتنوع ما بين ظواهر إجتماعية كثيرة منها التسول والسرقات المنظمة والعشوائية , إنعدام الأمن والإحساس بالأمان الإجتماعي , تسرب الطلاب من الدراسة وإنتشار الأمية لتداول الأعمال والمهن الغير ماهرة وإنتشار الأمراض النفسية والعصبية وإنخفاض المستوى الصحي وغيرها .
أما إذا إنتقلنا الى العالم العربي فإن الكثير من الدول العربية تعاني من هذه الظاهرة بسبب هشاشة البنى التحتية وقِدمها وتهدمها حتى أصبح الإعتماد الأساسي في الإقتصاد لديهم هو الإعتماد على التجارة بالموارد الطبيعية كمادة خام دون إمكانية تصنيعها أو تحويلها أو الإستفادة منها في تطوير الصناعة والزراعة وتنمية الثروة الحيوانية .
إن من أشد الدول العربية تهديماً للبنى التحتية في الإقتصاد هو العراق لأسباب كثيرة منها الحروب الخارجية والداخلية والنزاعات الطائفية والبذخ في تمويل هذه النزاعات حتى أصبح لهذا البلد جيوش طائفية تمول من جهات مختلفة في الداخل والخارج , وكل هذا يستنزف الطاقة التمويلية للإقتصاد العراقي والنتيجة الحتمية لهذا هو الفقر , حيث كشف رئيس اللجنة العليا للتخفيف من الفقر في أيار 2010 ( وهي لجنة شُكلت بالتعاون بين وزارة التخطيط والبنك الدولي ) عن وجود حوالي أكثر من 10 مليون فقير يعيشون دون خط الفقر , ويتميز هؤلاء بالفقر الغذائي ويتحدد دخلهم الشهري بحوالي 29 دولار . إن المجمعات العمالية والفلاحية الفقيرة مع شرائح واسعة من النساء والإطفال التي تعيش بدون معيل أُسري بسبب الحروب والتفجيرات .
إن الأرقام المعلنة لمستويات الفقر في العراق هي أقل بكثير من الحقيقة وتؤكد ذلك النظرة الشمولية الى الشارع العراقي , حيث أن ملامح ووجه الفرد العراقي يعطي تفسيراً علمياً لحالة صحية لكل فرد حيث تنعكس الألوان الشاحبة والرمادية في الوجوه والرؤوس وفي العيون الغائرة والمظهر الخارجي المُتعَب , والذي يعطي قياساً عمرياً أكبر بكثير من حقيقة عمر الأفراد , بسبب إنخفاض المستوى الصحي لدى النساء والأطفال والذي يكون سببه الإساسي هو الفقر . كما تتسع ظاهرة تناول المخدرات والتدخين لدى الشباب والأطفال العراقيين وهي كارثة صحية تؤكدها رائحة الدخان أينما تجولت في الشارع العراقي علاوة على السماء الملبدة بالغيوم الحامضية أو الغيوم القاتلة والتي تتراكم بسبب تراكم ( ثاني أُكسيد الكاربون وأول أُكسيد الكاربون وغاز الميثان ) لكثرة الحرائق في البيوت والمتاجر والمزابل وفساد محركات السيارات وقدمها وإحتراق الطاقة الخام وإستخدام المحولات الكهربائية والتي تنفث ( ثاني أُكسيد الكاربون ) , وإنتشار الأجزاء المتعفنة والمتفسخة في الجو بسبب تفسخ الكثير من الأجساد الحيوانية والبشرية وإنفجار المجاري العامة وتلويثها للجو .
إن الأوضاع السياسية في العراق تعرقل النمو الإقتصادي وتقوم بإنفاق الأموال الطائلة على التسليح العسكري والبوليسي , كما تنتشر ظاهرة المشاريع الوهمية والمعلنة في الصحافة المحلية والتي لا يُنفذ منها إلا القليل وبوتائر بطيئة .
إن إهمال إنشاء القاعدة المادية وتطويرها والإعتماد على الإقتصاد الأُحادي الجانب أي جانب النفط جعل العراق أشبه ما يكون بـ ( تنبل أبو رطبة ) والذي يظل فاتحاً فمه حتى ينزل عليه الرطب , ولا أعتقد أن العراقيين قد طُبعوا على الكسل لكن المؤسسات الإنتاجية التي تستوعب طاقاتهم الجسدية والعقلية غير متوازية فليس هناك من معامل للصناعات الغذائية أو للمنتوجات أو أي نوع من الصناعات الخفيفة والمتوسطة . وعلى هذا الأساس يظل الشاب العراقي مُضَيعاً ما بين عالم المخدرات والكبسلة وما بين عالم الميليشيات والمؤسسات الإرهابية أو قد يصبح بائعاً متجولاً أو عامل بناء .
لقد دفع الفقر بعض الشرائح النسائية الى الإنخراط في الكثير من الظواهر الإجتماعية الخطيرة كعصابات التسول أو مؤسسات البغاء أو الدعارة المستترة والتي تتشكل بأنواع من الزيجات المشوهة ( كزواج المسيار وزواج المتعة ) .. إن من النتائج السلبية للتشوهات الإجتماعية للمجتمع العراقي هو محاصرة المرأة ما بين حاجتها للعمل والسقوط القيمي الذي يتوضح داخل المجتمع العراقي وفي داخل الأسر والجامعات والدوائر الحكومية حيث يسيطر الغالب على المغلوب والرجال على النساء والرئيس على المرؤوسين . ويبدأ هنا الضغط الذكوري على المرأة وإستغلال حاجتها للعمل وللوظيفة .
إن إرتفاع نسبة النمو السكاني ليس سبباً لإستمرار الفقر في العراق , بل أن إنعدام التخطيط الإقتصادي والسياسة العلمية النزيهة هما السببان الرئيسيان , والبحوث الإقتصادية والإجتماعية تؤكد على تنوع المصادر الطبيعية وإنتشارها في العراق وخاصة الثروة الطبيعية والحيوانية , ولنأخذ مثلاً على ذلك منطقة الأهوار , فلقد كان فيها من الثروة السمكية والتنوع الحيواني ما يكفي لسد حاجة المنطقة من الغذاء ويفيض الى جميع أجزاء العراق , إلا أن الأهوار بعد أن جُففت من قِبل النظام السابق لم يبق أي أثر للأسماك حتى وبعد أن إمتلأت بالمياه بعد إزدياد مستوى الأمطار مؤخراً , وتحتاج هذه المنطقة الى رعاية خاصة لإعادة الحياة الى تنوعها الحيواني الغزير .
إن البيئة الزراعية بحاجة الى إنعاش للتربة المجروفة ولنظام السقي , ولجعل العدد الهائل من المعرضين للفقر من سكان المنطقة المشتغلين بالزراعة البالغة نسبتهم 56% من فقراء الريف قادرين على العمل وغير مضطرين للنزول الى المدينة لأجل التسول أو الإنخراط بالعصابات المنظمة .
إن بغداد المدينة التي تغنى بها الشعراء قد أصبحت مأوى للمتسولين وأطفال الشوارع الذين يبيتون دون مأوى , ويبحث الآلاف من أبناء بغداد عن العمل فلا يجدونه وتبلغ نسبة العاطلين 57% من السكان القادرين على العمل .
إن الظواهر الإجتماعية الناتجة من الفقر كثيرة ومتشعبة وتتركز في الشرائح الفقيرة وتتوزع ما بين العمال والفلاحين والكسبة ومعوقي الحروب والذين تبلغ أعدادهم مئات الآلاف من المصابين بالإعاقة البدنية والعقلية كذلك ملايين من اليتامى والأرامل . كل هذا يحدث في بلد ميزانيته المعلنة لعام 2013 قد بلغت 118 مليار دولار , لكن النتائج الحاصلة لهذه الموارد هو إنتشار الظواهر الإجتماعية والتي لم تكن في المجتمع العراقي في الأربعينيات والخمسينيات والستينيات مثل ظاهرة القتل السهل للرجال والنساء والأطفال ولأسباب مختلفة مثل جرائم الشرف وبسبب الفساد الإجتماعي وإنعدام الثقة المتبادل , وقتل الأطفال لأسباب تجارية لغرض الحصول على أعضائهم أو بيعهم للعصابات للحصول على الفدية النقدية أو لإستخدامهم لغرض التسول عن طريق صنع عاهات حقيقية لهم كحروق عميقة في الجسم أو قطع الإيدي والأرجل لجلب الشفقة والمال ! .
إن الظواهر الإجتماعية الأخرى تتوزع بشكل عشوائي ما بين الريف والمدينة ويصبح الهرب لأفراد المجتمع العراقي هو المَهْرب الوحيد فهروب الطلاب من مدارسهم وهروب الفلاحين من أريافهم وأخيراً هروب النساء من بيوتهن والتي أصبحت سجوناً وقلاعاً بسبب التدهور القيمي وآخرون ايضاً ألا وهم السجناء حيث يعود القتلة ثانية الى الشارع العراقي ليزاولوا أعمالهم الوسخة . وهناك سجناء آخرون ولكن من نوع آخر وهم نزلاء المستشفيات العقلية وهم يُدفعون دفعاً الى الهرب لغرض التخلص منهم , وقد لوحظ بأن الكثير منهم يتجولون في أحياء بغداد ويسلكون سلوكيات غريبة أو يتحرشون بالمارة وقد يتشاجرون مع أنفسهم , وهذا يعني أن العراق الأبي لم يعد يستطيع إحتواء أبنائه الأصحاء والمرضى ولا العقلاء أو المجانين .
إن ظاهرة الفقر في العالم تقود وتدفع الكثير من الدول الى بناء إقتصاد متين والذي يدعمه السلام الداخلي والخارجي لغرض القضاء على الفقر . أفلا يحذو العراق حذو الهند والصين مثلاً ويحتضن فقراءه لجعلهم بناة الغد الأفضل .