المنبرالحر

تجارة العافية / محمد شريف أبو ميسم

الفوضى التي أصابت تشكيلة السوق المحلية بعد الانفلات الناجم عما اطلقوا عليه الاحتكام لآلية السوق بغياب فاضح للقوانين، انسحبت تداعياتها على قطاع الخدمة الصحية بشكل لم يكن يتوقعه حتى العاملون في هذا القطاع في أوج الاستهتار الذي شهده خلال السنوات العشر الأخيرة من حكم النظام المباد والذي استبدلت فيه المضادات الحيوية المعبئة بـ(الكبسولات) بمادة الطحين، وبيعت الأدوية المنتهية الصلاحية في وضح النهار ، وشاعت على استحياء تجارة بيع الأعضاء البشرية في المستشفيات الخاصة، الى الحد الذي أخذت فيه شرعيتها من شيوعها ،لتورث وتأخذ كيفيات مختلفة في هذا الزمن. بيد ان اللافت في الوقت الراهن هو تكريس شرعية جني الأرباح في هذا القطاع على حساب الناس والجانب الانساني لهذه المهنة ، دون رحمة وبغياب تام للقوانين التي تحمي الانسان بوصفه مستهلكاً يشتري الخدمة بأموال طائلة من عيادات بائسة أو معلقة في طوابق عليا من العمارات القديمة ،دون أن يحصل على ضالة الشفاء بجانب تداعيات التأثيرات الجانبية للدواء الذي يتناوله ، والذي غالبا ما يخضع لمفهوم الاتجار والاستهتار بحسب هيمنة الشركات الدوائية وتنافسها غير المشروع عبر تسويق ادوية بأسعار زهيدة مقابل أدوية أخرى بعشرة أضعاف السعر، أو محاولة احتكارها لسوق بعينه (منطقة أو مدينة ، أو محافظة) في غياب تام للجهات الرقابية والصحية ..اذ لم يتوقع طبيب ما أن يصل الأمر الى حد الحصول على سفرة سياحية مجانية الى تركيا أو جورجيا أو حتى فرنسا أو ألمانيا في أعياد الميلاد اذا ما ساهم في تصريف الكمية التي سوقتها الشركة (س) للصيدلية الفلانية على زبائنه المرضى دون غيره من الدواء التي تنتجه الشركات الأخرى، ولم يتوقع العاملون في هذا القطاع ، أن يجنوا أرباحا بهذا الحجم خلال فترات قصيرة ، بجانب الهدايا التي يتلقونها من الشركات المسوقة بحسب عاملين في هذا القطاع الذين أكدوا "ان أحدى الشركات من أحدى الدول الخليجية تسوق هدايا بقيمة لا تقل عن 200 ألف دولار اذا ما سوقت شحنة دواء للسوق المحلية بمليون دولار " وهذه الهدايا ستكون لمن يساهم في سرعة التسويق ، وهؤلاء في العادة هم من أصحاب المذاخر والصيدليات والأطباء" .
ان مهنة الطب التي لبست حلة الرحمة والانسانية منذ ولادتها مع الحضارة البشرية وشهدت عبر تاريخها العديد من المواقف النبيلة لغالبية العاملين فيها ،تعرضت في مراحل مختلفة من التاريخ الانساني لأدران الدخلاء والطفيليين الذين اتخذوا منها مصدرا لجني الأموال على حساب الهدف النبيل والسامي الذي ولدت من أجله.
وبسبب سلوك الدخلاء واللاإنسانيين ، فقد عمدت الدول المتحضرة على سن قوانين صارمة تنظم من خلالها العمل في هذا القطاع الخطير وتشكل علاقات العاملين مع المرضى بوصفهم مستهلكين يشترون هذه الخدمة الخطيرة التي قد تودي بحياتهم.. وتشتد أهمية هذه القوانين والتشريعات كلما زادت احتمالية تعرض المريض الى الابتزاز والمجتمع لأزمات اقتصادية، وهذا ما شاهدناه مؤخرا في اليونان الذي يعاني اقتصادها منذ سنتين من أزمة خانقة ، اذ عمدت السلطات الى الزام عيادات الأطباء والصيدليات باعتماد برامج الكترونية على الحاسب الآلي ،يتم فيها تدوين الوصفات الطبية لكل مريض بحسب الحالة المرضية التي يتم وصفها في البرنامج ذاته وبحسب أرقام التقارير الصحية الصادرة من المختبرات التي تكون هي الأخرى ملزمة بادخال تقاريرها في الحاسب الآلي ، ليتسنا للسلطات الرقابية متابعة حالات المرضى بوصفهم مستهلكين قد يتعرضون للضرر من بائع الخدمة ، بجانب الحد من استهتار تجار المهنة الذين يقومون بتسويق كميات هائلة من الدواء بأسعار خيالية على المرضى بدعوى ان العلاج الفعال ولا يمكن لغيره أن يأتي بالنتائج التي يريدها الطبيب ، فيما المريض وأهله صاغرون في بلدنا لأوامر وتوجيهات من ليس له إنسانية بغياب السلطات الرقابية وقانون حقيقي يحمي المستهلك .