المنبرالحر

برطلة..من هنا مر العراق / عبدالمنعم الاعسم

تصلح قصة قرية برطلة مع الاستئصال ان تكون قصة العراق نفسه في معركته الضارية لكي يبقى على الخارطة بلدا للمواطنة والمساواة وتعايش العقائد والسلام الاهلي. ويشاء العام 1970 الذي بدأ فيه العراق رحلة الاخصاء الطويلة على يد الصدامية الفاشية الصاعدة، ان يكون عاما لبدء محنة برطلة إذ اصدر احمد حسن البكر بصفته رئيسا للجمهورية القرار السيئ الصيت في الاول من كانون الثاني من ذلك العام «بإحداث قضاء في محافظة الموصل باسم قضاء الحمدانية يكون مركزه في قصبة قرقوش ترتبط به ناحية الحمدانية وتكون حدوده الادارية نفس الحدود الادا?ية لناحية الحمدانية».
وفي التطبيق الميداني للقرار (وهذا ما كانت تستهدفه المناقلات الادارية التي خلقت فيما بعد مشكلة المناطق المتنازع عليها) تم استقطاع خمس مقاطعات آمنة ومتطامنة ومتعايشة من جسد برطلة والحاقها بادارة القضاء الجديدة في خطوة أضعفت مكانة القرية (المغضوب عليها) بوصفها حاضرة للتعايش بين الطوائف المسيحية والاسلامية والعلاقات بين كرد وعرب المنطقة. وجريا على النهج الشوفيني فقد قربت الدكتاتورية انتماءات سكانية معينة على غيرها وجعلت منها مصدرا لازلامها واجهزتها القمعية، فيما عملت على إذلال انتماءات اخرى تحت شبهة عدم الولا? للنظام.
لكن معاناة برطلة لم تتوقف عند هذا الحد، الاداري، بل اغارت عليها الشوفينيات والكراهية الدينية والتأليب الخارجي، وصار رأسها مطلوبا من متطرفي الاديان والمذاهب، وانقلب عليها شركاء وجيران، واضطرت المئات من عائلاتها الى النزوح بعدما ضاقت بها سبل العيش الآمن. فيما استبيحت تركيبتها وهويتها في سلسلة تغييرات تستهدف ديموغرافية المنطقة، وذلك بحملات منظمة ومنهجية لتغيير ملكية الاراضي من سكانها الاصليين اتباع الديانة المسيحية الى سكان آخرين، لاعتبارات سياسية مستوردة من مطبخ الصراع والازمة السياسية في بغداد، وبما يدخل في ظنة التغيير الديموغرافي ليس في منطقة برطلة بل وفي سهل نينوى الذي يضم عشرات البلدات والقرى التي يسكنها الكلدان والسريان والاشوريون.
الغريب في تأويلات البعض من اصحاب الحملة لإحداث التغيير الديموغرافي في المنطقة القول: لماذا يمانع سكان برطلة الاصليون ومواطنو سهل نينوى في التعايش مع انتماءات دينية وقومية اخرى؟ لكن هذا التأويل يصطدم بحقيقتين، الاولى، ان هذا التعايش لا ينبغي ان يتحقق (ولن يتحقق في الواقع)على اساس إجلاء سكان وتجريف وجودهم الديني والعقيدي، فان للعدالة اطرافاً متساوية الحقوق ولا تتم بهضم حقوق ثابتة لأحد أطرافها. وثانيا، ان سكان برطلة كانوا قد ضربوا مثلا في اقامة مجتمع متسامح ومتضامن تنعم فيه الانتماءات بالسلام الاجتماعي. ولم ?تصدع هذا المجتمع إلا على يد اصحاب هذه التأويلات، الذين ظهرت لهم في غضون السنوات العشر الاخيرة سلطات اسطورية ومواكب سيارات وحمايات ومافيات، في انقلاب عراقي للاقدار، قد تنقلب على عقبها يوما.
عبدالمنعم الاعسم

*******
«لا ادري كيف يزاول انسان اعمال القتل ولا يحجر في اسطبل».
انتوني كوين