المنبرالحر

الإرهاب وفلسفة الموت في المدينة الكوردستانية كركوك/ د. سامان سوراني

شهدت مدینة کرکوك الیوم ٤-١٢-٢٠١٣ هجوماً إرهابیاً جهنمیاً وحشیاً أعمی مزّق الأجساد ودمّر الممتلکات ، مستهدفاً مبنی دائرة استخبارات المحافظة ، يعجز اللسان عن ايجاد كلمات تناسب شجبها بسبب الفلسفة البربریة التي تقف ورائها والتي لا ترید شیئاً سوی إلحاق الدمار بأهالي هذه المدينة وإفساد التعايش السلمي فيها. إنها فلسفة الموت ، التي تفضل الموت على الحياة. وهي فلسفة كاذبة عنصرية تستند الى المبدأ المتوحش الداعي الى قتل المواطنین الأبریاء لمجرد كونهم مواطنین أبریاء یریدون أن یعیشوا في سلام ووئام مع عوائلهم و ذویهم ، لأنهم لیسوا "مجاهدین في سبیل العدم" ولأنهم لیسوا جبناء مثلهم. انها فلسفة مجرمي الحرب وغايتها قتل اشخاص أبرياء.
ماهي الرسالة التي يريدون توجيهها من خلال هذه العملیة اللاإنسانیة؟ هؤلاء کما هو واضح للعیان یریدون النیل من المواطن والدولة والمدینة والمجتمع ، مدفوعین بعقلیة الثأر والإنتقام من کل من لایشبههم أو لایفکر علی شاکلتهم ، هدفهم المراهنة على انفجار ضغائن المكونات المحلية على بعضها و محاولة يائسة لزعزعة أمن واستقرار المدينة وضرب الأخوة والتعايش السلمي.
نحن نعرف بأن لهذه‌ الأحداث دلالتها الرمزیة وأبعادها الثقافیة ، والذین یقفون وراء هذه‌ العملیة الشرسة واللاإنسانیة یتعاملون مع هویتهم الدینیة أو القومیة بأقصی الغلو والتطرف والإنغلاق ، کعُصاب نفسي هو مصدر للتوتر والتشنّج ، کمتراس عقائدي لشن الحرب علی الغیر، أو کخطاب فکري للنبذ والاقصاء ، یستغلون البائسین والمهووسین في مشاریعهم الهمجیة ، إنهم یخططون لفعلتهم المتحجرة والأحادیة والعدوانیة والاستبدادیة هذه‌ في السرّ وتحت الأرض ، لکنها تمارس تحت سمعنا و بصرنا ، وکما تُعمّم نماذجها في الجوامع والمدارس أو عبر الشاشات والقنوات. یتصور أصحاب الارهاب وأتباعه انفسهم خلفاء الله وسادة الخلق وخیر الأمم ، أو أنهم ملاك الحقیقة وحراس الإیمان ، سائرون علی النهج القویم وحدهم دون سواهم ، یدّعون بأن الشرائع القدیمة تنطوي علی أجوبة وحلول للأسئلة ولمشکلات العصر، یمارسون الوصایة علی الناس وینطقون بإسمهم زورا و تشبیحاً ، یصادرون قرار الناس ویتحکّمون بأعناقهم و أرزاقهم ویشنون الحرب الإرهابیة نیابة عنهم. إنهم لایعترفون بقرار الآخرین في اختیار نمط حیاتهم ، بوصفهم مبتدعین ضالین أو کافرین مرتدین. فهُم یستخدمون العنف والإرهاب ، قتلاً وتصفیة أو استشهاداً و انتحاراً ، مدفوعین بعقلیة الثأر والأنتقام من کل من لایشبههم أو لایفکر مثلهم ، تحت دعوی سخیفة ومزیفة ، هي إنقاذ "الأمة الاسلامیة" في العراق ، هدفهم تغییرالحیاة في مدینة متأخیة ککرکوك الی جحیم ، قتلاً وحرقاً وتدمیراً بصورة عشوائیة ، عبثیة مجانیة.
الأفكار الأصولية والسلفية بتصديرها مارکة الحجاب والدم والتضحية عملت وتعمل ليل نهار ضد صناعة التنمية والمدنية والحضارة، بقمعها الحريات الفردية وإرجاع أسباب المصائب والکوارث والجهل والفقر في مجتمعاتها إلی الغزو الثقافي الغربي أو إلی العولمة والأمرکة.
إن إستراتيجية الرفض والإقصاء وإرادة التأله والتفرد هي التي تثمر البربرية والهمجية الحديثة والمعاصرة، حيث يتم القتل وتمزيق الأجساد وتدمير الممتلكات بأعصاب باردة وضمير جامد و بعقلية أخروي أو عسكري إرهابي بصفة المناضل والمجاهد والمدافع عن الهوية والثوابت.
فبدل السعي والعمل بمفردات نسبية علی نظريات ثورة الاتصالات والمعلومات قام أصحاب الفکر السلفي الأصولي والقومي الشوفيني بتهافته في مواجهة کتاب نهاية التاريخ لفکوياما بتأليف مجلدات مبنية علی لغة الغلو والتهويم اللاهوتي والتشبيح النضالي والعقائدي لتحقيق إستراتيجيتهم التدميرية.
لقد حان الوقت لیعلن علماء المنابر أمام الملأ، أولئك الذین ینطقون بإسم مذاهبهم ویؤثرون في الجمهور الواسع من المتدینین، بأنه لیس کل ماجاء في کتبهم صحیحاً أو صالحاً للتربیة الدینیة ، فبدون إلغاء النصوص والأحکام والفتاوی ، التي تولد الاقصاء المتبادل وتبث العداوة والکره بین الشیعة والسنة من کلیات الشریعة وبرامج التعلیم الدیني، وبدون إستبعاد النصوص والأحکام التي تتعامل مع الیزیدیین والمسیحیین والصابئة المندائیة والیهود، کمشرکین أو ضالین وبدون إطلاق حریة الإعتقاد بإلغاء قاعدة الارتداد لایمکن مواجهة الذات و لایمکن مکافحة ممارسة التشبیح أو الشعوذة و نشر الفتن ولایمکن صناعة مجتمع مدني تتعدد فیه الثقافات والإعتقادات ، التي تمحي التحجر الإجتماعي والسکون الثقافي. فالخروج من المأزق هو العمل علی التمرس بإستراتیجیة فکریة جدیدة من مفرداتها: الإعتراف المتبادل، لغة التسویة، عقلیة الشراکة، البعد المتعدد، ثقافة التهجین والعقلانیة المرکبة ومعالجة الإرهاب تحتاج الی إجراءات أمنیة بقدر ماتحتاج الی تحولات في بنیة الثقافة بثوابتها ونماذجها أو ببرامجها وتعلیمها.
وختاماً: علینا ببناء هذه المدينة الكوردستانية المتآخية حتی وإذا أصر الآخرون علی هدمها.