المنبرالحر

تمهل "فؤاد".. تدفق أيها الهديل / علي أبو عراق

لم يكن فؤاد سالم مطربا تقليديا ظهر نهاية الستينات ومطلع السبعينات بعد أن حملته سفينة الاوبريتات البصرية وخصوصا "بيادر خير" الصاعدة بجموح الطلع وشبق موجات شط العرب من بين غابات النخيل وظلال الشناشيل ببهاء باذخ وقدرة مميزة نحو العراق وعاصمتها بغداد التي كانت تنتظر بلهفة وترقب فيوضات الجنوب، لم يكن فؤاد مطربا بخامة صوتية نادرة وفريدة حسب، بل كان شابا بصريا يتوهج وعيا ويتقد عذوبة وجمالا تسوقه روح ناهضة مضيئة، فقد اشتعل وجدانه وامتزج و تخصب حسه الجمالي ووعيه.
بعذابات الفقراء وأمالهم وتطلعاتهم، وشحن شحنا وطنيا وإنسانيا وأخلاقيا وسياسيا بوقود الثورة التي غذتها نيران القمع والاستبداد وعذابات العراقيين والشيوعيين منهم والتي طالت جميع الوطنيين التقدميين الذين كانوا يبنون متاريسهم الأولى ضد بقايا الاستعمار وفلول الرجعية المسعورة التي تلبست مسوحا مختلفة دينية وطائفية وقومية ويكافحون الظلم والاستبداد والقمع الوحشي للشوفينيين والانقلابيين وعملاء المخابرات الأمريكية الذين لا يجيدون سوى لغة الفتك والدمار ، فؤاد سالم كان ابن هذا النتاج العظيم ابن أغاني الدوكيار وأهازيج عمال الموانئ والخندق وهتافات إضرابات السكك وكورباغي وكردستان وانتفاضات الفلاحين والطلبة والإضرابات العمالية المطرزة بالأمل والشمس التي كانت تلوح في الأفق حارة وطليقة، ابن بيادر خير والمطرقة ونيران السلف وغيرها من الأمجاد البصرية العراقية الظافرة ، وعلى الرغم من كونه ينتمي لعائلة تعد من أغنى أسر البصرة "بيت بريج" لكنه كان نصيرا للعمال والفلاحين ولعل شوارع المعقل والعشار وباقي مناطق البصرة لم تزل تتذكر ذلك الشاب الوسيم اليساري الذي كان يسمى حينها وقبل احترافه الغناء (فالح حسن).. كان ابن سياقه الثقافي والسياسي حقا.. كان مثقفا نوعيا.. لم يعتمد على خامته الصوتية الجميلة والراقية التي قاربت خامة مطرب العراق الكبير ناظم الغزالي وغيره ، بل أمتاح من عذابات وطموحات وتاريخ الحركة الوطنية والحزب الشيوعي العراقي وأرث الرافدين الغني وأحلام الثورة والثوار وقودا آخر باعتقادي كان هو الأهم في مسرته الصاعدة و طرحه كظاهرة غنائية جديدة وملفتة ومتميزة جعلت منه مغنيا للشعب ونجما ساطعا في سياقه الثقافي ومبشرا بلون غنائي خرج عن التقليدي والمألوف والسائد ومزج مزجا باهرا بين العواطف الشخصية الصغيرة وعواطف الناس كل الناس، ولعلي اجزم وأنا على يقين راسخ. أن ليس ثمة عراقي كان وفي زمن الخراب الزائل لا يحب فؤاد سالم، حتى مناوئيه من أزلام السلطة والصدامين كانوا يسمعون أغانيه الناضجة كالثمار في كل المواسم خلسة أو في جلساتهم الخاصة لأن أغانيه منعت بعد سنة 1979 سنوات الإبادة الجماعية لكل الوطنيين واليساريين على وجه خاص، ولعله إعجاز كبير لم يحققه سوى الشاعر العظيم مظفر النواب وفؤاد سالم في ان يردد أعداؤهما ما يريدان قوله، فكانت أغانيه "يبو مركب، رايحين، بيض الدشاديش ياكمر"، وغيرها من الأغاني التي حفرت في الذاكرة انهارا من النور كان كل العراقيين يتغنون بها دون كلل او ملل، هذا فضلا عن عشرات الأغاني السياسية التي غناها في المنفى والتي قارع فيها الاستبداد والطغيان ألصدامي الذي غطت غيومه السود سماء العراق لأكثر من ثلاثة عقود، .. قبل 2003 كان فؤاد سالم رمزا من رموز الذاكرة ومفتاحا من مفاتيح وجداني العاطفية والطبقية ..وكان لقاؤه حلما من أسراب أحلامي الثرة الكثيرة، وبعد 2003 وعند سقوط النظام تحقق هذا الحلم عرفت فؤاد سالم عن قرب بعد عام 2003 وبعد أن عاد لوطنه ووجه طافحا بالبشر وقلبه محتشدا بالآمال والأماني العريضة, كان يمشي ترافقه الشموس وتزفه الفواخت فالرجل لم يضعف أمام فتك وهتك وحتى إغراءات النظام السابق الكثيرة بل صمد واصطف مع شعبه وفي أول الصفوف وتعرض لشتى صنوف العزل والتغييب والنفي حتى تحقق أمل العراقيين بانهيار النظام الفاشي، ولكن بعد أيام ليست كثيرة وهو يحاول تنفس هواء مدينته الذي لم يزل مشبعا برائحة البارود وأزيز الرصاص.. لكنه كان أجمل وأروع هواء تنشقه كما قال لي، بعدها بأيام جابهته بعض المليشيات بما لا يتوقع فانكفأ راجعا وفمه مليئا بالمرارة وروحه بغصة من الكدر والإحباط لا يقدر حجمها.
تعززت علاقتي به خلال هذه الزيارات إذ كنا نلتقي في بيت ابن عمه زوج شقيقته ابن الحاج كاظم بريج في حي الزهراء وقد أثمرت لقاءاتنا الأغنية الوحيدة التي سجلها في العراق بعد رحيل النظام السابق وهي "يم محمد" التي ضاعت في رفوف الفضائية العراقية وهي من الحان الملحن الكبير طارق الشبلي الذي ينوء تحت مرض ثقيل الآن نتمنى من الله أن يخرج منه سالما ولا يحتاج لرعاية الحكومة التي لا ترعى سوى خيباتها وبؤسها ولا السياسيين الغائبين عن الوعي أن "كان لهم وعي أصلا" في حفلات الدروشة القذرة التي تضوع منها روائح الفساد والخيانة ودماء أمال الشعب المسفوحة على دكة الغباء المفرط والأنانية اللزجة والتخلف المريع والعهرنة الطائفية والتكالب المسعور على المال والسلطة و الذين لم يلتفتوا التفاتة ولو عابرة لا نطمح ان تكون بقدر حضنهم واحتضانهم الرعوي للجواري والغجريات التافهات، لمبدعي العراق وضميره كفؤاد سالم وطارق الشبلي ومحمود عبد الوهاب وغيرهم العشرات من الأدباء والفنانين بل المئات.
كانت الأغنية الوحيدة التي غناها بعد عودته هي كما أسلفت من كلماتي، كانت تتحدث عن امرأة عراقية فقدت ابنها في غياهب ومتواليات الفتك والطغيان للنظام السابق، وقد أذيعت لسنتين ومن ثم اختفت في دهاليز الفضائية العراقية لا ادري بفعل خلية نائمة للرفاق في متاهاتها أي الفضائية العراقية ام هي نكاية بالمطرب الكبير والرمز الوطني الشامخ فؤاد سالم، كما جمعتنا سوية رحلة أخرى نظمها الأخ عودة الضاحي لدولة الكويت لتطبيع العلاقات، فاستقبله الإخوة الكويتيون بقلوب عامرة بالحب والمودة إذ نظمت له جمعية الخريجين الكويتيين أكثر من حفل انشد فيه للعلاقة بين البلدين والشعبين سيما وان دولة الكويت كانت منفاه الأول الذي أنتج فيه أجمل أغانيه السياسية والعاطفية مثل "مشكورة" وغيرها. الحديث عن فؤاد الإنسان المثقف الشيوعي العراقي الطيب لا ينتهي ولكن يجب ان اخلص إلى أن فقدان هذا الرمز والعلامة المضيئة في تاريخ الثقافة والفن والسياسة هو خسارة بكل المعاني ...هو خسارة قاصمة للأغنية العراقية وضربة موجعة للوجدان العراقي.. وهو جرح غائر لا يشفى لنا نحن أصدقائه ومحبيه.. وهو الكثير الكثير، ولكن سلاما أيتها الذاكرة هل لك القدرة على أن تنسي حبيبا مثل فؤاد سالم او حسن فالح أو أبو حسن ، لا يهم فهو هو الإنسان الطيب ابن الأغنياء الذي عشق الفقراء وأخلص لهم ، هو الذي لم تزل ملكات الليل في شوارع المعقل وأزقة البصرة الضيقة والفسيحة تضج بأغانيه، ونخيلها يستضيفها كحمامات عقدت مؤتمرات للحزن والحنين في أعاليها، تدفق أيها الهديل فالفقيد طفلك الذي أنهكته المنافي وسحقه المرض.. تدفق أيها الهديل... ويا أمواج شط العرب تلوي واربتي على تمثال السياب ووشوشي في أذنه قولي له أن روح فؤاد قد ركبت اليوم بلمها العشاري وجاءت مبحرة من الخليج إلى جيكور وبويب وصعدت إلى الأعالي لتمسد شعر روجات نهر المشرح لتذكره بالعهود ولتستعيد كل الأغاني التي غنتها لهذا الوطن ..وها هي حمامة تزف بين النخيل واشجار السدر والبمبر والتوت لتعلن خلودها الأبدي فالمضيئون لا يرحلون.