المنبرالحر

إتفاق أوسلو جديد يُحضّر لفلسطين؟ مشروع كيري بداية تظهير "دولة اليهود في العالم"/ د. ماري ناصيف – الدبس

تتزاحم الأحداث الخطيرة في فلسطين المحتلّة دون أن يتنبَّه الكثيرون لما تحمله التصريحات والمواقف، وخاصة القرارات الصادرة عن الكيان الإسرائيلي من إمكانيات تصفية القضية الفلسطينية ووضع حدٍّ نهائي للصراع العربي- الإسرائيلي.
ويسعى المسؤولون الصهاينة، بدعم جديد وفعّال من الإدارة الأميركية، للاستفادة القصوى من التطورات السياسية والعسكرية في المنطقة المحيطة بفلسطين، بدءاً بالحرب الدائرة في سوريا وامتداداتها إلى لبنان ووصولاً إلى التحركات "الاخوانيّة" على الساحة المصرية واهتمام الشعب المصري بالدستور والانتخابات الرئاسية المقبلة، من أجل إمرار مشروع "دولة اليهود في العالم" الذي أعاده الرئيس الأميركي باراك أوباما إلى الواجهة في ولايته الثانية، بعدما تعهّد أمام اللوبي الصهيوني العالمي، ومنذ الأيام الأولى لوصوله إلى البيت الأبيض، بالعمل على جعله حقيقة واقعة.
مشروع "الاتفاق – الإطار"
ويمكن القول إن مشروع ما يسمّى "الاتفاق – الإطار"، الذي أطلقه وزير الخارجية الأميركية جون كيري في أوائل كانون الثاني الحالي، خلال زيارته العاشرة قبل الأخيرة إلى المنطقة، يأتي ضمن هذا الاتجاه.
فهذا المشروع – الذي لقي الدعم والتأييد من قبل المملكة العربية السعودية والأردن حتى قبل أن يبلوره صاحبه في نص متكامل مكتوب – خطير جداً كونه يتضمن فرض تنازلات جديدة على الشعب الفلسطيني تتعلق بالسيادة والأرض وحق العودة، في وقت يستمر فيه الكيان الإسرائيلي في سياسة تهويد القدس وطرد السكان الأصليين من مناطق عدة وقتلهم واعتقالهم والاستيلاء على أرضهم لاستكمال بناء المستوطنات الصهيونية فيها، والتي كان آخرها القرار الصادر عن نتنياهو ببناء 1400 وحدة استيطانية جديدة، يتوزّع نصفها ضمن حدود القدس الشرقية والنصف الآخر في بعض المناطق الحسّاسة من الضفة الغربية.
ما هي الخطوط الأساسية لمشروع كيري؟
يحدِّد المشروع، أولاً، نشوء دولتين "مستقلتين". إلا أنه لا يلبث أن يتراجع عن هذه "الاستقلالية" ليعطي الكيان الإسرائيلي الحق في حماية أمنه عبر إعطائه الحق في نشر قوة عسكرية للإشراف على الحدود الفاصلة بين "الدولتين" لمدة تتراوح بين عشر سنوات وخمسة عشر سنة. كما أن المشروع لا يكتفي بهذا الإشراف العسكري، بل يضيف له تسليم إسرائيل الأمن بين الضفة الغربية والأردن، وبالتحديد على طول وادي نهر الأردن، عبر أنظمة مراقبة متطوّرة ثابتة ودائمة.
هذا على الصعيد العام. أما في ما يتعلّق بالقضايا الأخرى ذات الصلة بقرارات الأمم المتحدة، بدءاً بالقرار 194 وما يتضمنه بالنسبة لحق العودة ومصير مدينة القدس، فالإبهام سيد الموقف. إذ أن المشروع يتحدث عموماً عن "القدس عاصمة للدولتين". وهو يطرح مسألة حق العودة للاجئين الفلسطينيين دون أن يحدد صراحة المبادئ التي ستستند إليها، ناهيك عن المهل الزمنية للتنفيذ؛ ففي هذا المجال إحراج للحكومة الإسرائيلية التي أعلن وزير خارجيتها أفيغدور ليبرمان مجدداً، في معرض تقييمه لمشروع كيري، أن إسرائيل "لا يمكن أن تؤيّد أي اتفاق سلام لا يتضمن تبادل سكّان إلى جانب تبادل أراضي"... هذا التبادل الذي يبدأ – حسب تحديد ليبرمان – بنقل "السكان (الفلسطينيين) من المثلّث ووادي عارة لتعزيز يهودية إسرائيل"، والذي لا يمكن أن ينتهي، حسب رأينا، إلا مع طرد كل الفلسطينيين من أراضي 1948 التي ستشكّل المنطلق لما يسمى "دولة إسرائيل الكبرى".
"وادي نهر الأردن إسرائيلي، وسيبقى كذلك"
وحتى تتمكّن حكومة نتنياهو من الحصول على تنازلات جديدة، أساسية، إن من الفلسطينيين أم من العرب، دون أن تحرج إدارة أوباما، التي سبق لها أن أعطت وعوداً كثيرة حول قيام الدولة الفلسطينية، عمدت كعادتها إلى اتخاذ قرارات مفصلية، ليس فقط في مجال الاستيطان، بل كذلك باتجاهين خطيرين: الأول، ويتعلّق بالاقتراح الصادر مؤخراً عن إحدى اللجان الوزارية والقائل بالسيطرة على وادي نهر الأردن، "حتى في حال الاتفاق مع الفلسطينيين". أما الثاني – الذي يعتبر بداية التنفيذ العملي للاقتراح سابق الذكر – فيتعلّق بإقدام مجموعة من نواب اليمين الإسرائيلي المتطرف، بقيادة وزير الداخلية جدعون سعار، على افتتاح مستعمرة، هي الأولى من نوعها، في وادي نهر الأردن كونه "إسرائيلياً، وسيبقى". كل ذلك بالترافق مع حملة واسعة ومفتعلة على جون كيري، أهم بنودها يكمن في الإعلان عن نتائج استفتاء يرى فيه ثمانون بالمائة أن وزير الخارجية الأميركية لا يمكن الركون إليه وأن المشروع الذي سيحمله لن ينجح في تحقيق السلام...
ويمكن تفسير هذه الحملة الجديدة على السياسة الخارجية الأميركية ضمن محاولات الابتزاز الإسرائيلية المعهودة، خاصة بعد الاتفاق الأميركي – الإيراني الذي وضع إيران على باب نادي الدول النووية، من جهة، وأجّل الخطة التي كانت تل أبيب قد وضعتها لضرب المفاعلات النووية الإيرانية بهدف البقاء لوحدها ممثلة لدول الشرق الأوسط في هذا النادي... علماً أن كيري أكد في كل التصريحات التي أطلقها خلال زياراته العشر الماضية أن موقع إسرائيل ودورها في المنطقة يبقى أولوية بالنسبة للولايات المتحدة التي تعتبر أمن الكيان الإسرائيلي ثابتاً من ثوابت سياستها الخارجية، وأن لا تراجع عن استمرار الدعم الأميركي المطلق للدولة الصهيونية.
السلطة الفلسطينية والمواقف المتراجعة
بكل الأحوال، لا شيء غير مألوف في سعي الكيان الإسرائيلي للاستفادة من علاقاته الأميركية ومن دور اللوبي الصهيوني المسيطر، وبالتحديد المنظمة اليهودية العالمية "آيباك"، لفرض المزيد من التنازلات، ليس فقط بشأن ضم أغلبية الأراضي الفلسطينية المحتلة إلى مشروع "دولة اليهود في العالم" (وهذا ما عمدت واشنطن إلى تثبيته عبر إلزام السلطة الفلسطينية بالعودة إلى طاولة المفاوضات دون شروط مسبقة)، بل كذلك بشأن الانتهاء من ملف الدولة الفلسطينية وحق العودة للاجئين الفلسطينيين. إنما ما يخرج عن المألوف، بنظرنا، هو ذلك الخط التنازلي المستمر من قبل السلطة الفلسطينية التي لم تكتف بالانصياع للقرار الأميركي باستئناف المفاوضات الثنائية خارج إشراف الأمم المتحدة مع السكوت عن كل المشاريع الاستيطانية التي أقرّت خلال الأشهر الستة الماضية، بل تجاوزت ذلك إلى تقديم تنازلات جديدة أطلق عليها كيري صفة "التضحية" واعتبرها ملاقاة في منتصف الطريق لمشروع "الاتفاق – الإطار".
وتقول بعض المعلومات المتوافرة أن موافقة السلطة الفلسطينية، منذ ستة أشهر، على العودة دون قيد أو شرط إلى المفاوضات وخاصة على إبقاء جزء من المباحثات سرّية – كما في أيام التحضير لاتفاق أوسلو – إنما تهدف إلى تسهيل إمرار بند إلغاء حق العودة، الذي شكّل على الدوام هاجساً للصهاينة وكان من أول النقاط التي أعلنت حكومة أولمرت السابقة، على لسان وزيرة خارجيتها تسيبي ليفني، أن المفاوضين باسم الشعب الفلسطيني قد وافقوا على عدم الإصرار عليه. وإذا ما أضفنا إلى هذا الاحتمال إصرار السلطة على متابعة المفاوضات، على الرغم من القرارات التي اتخذتها حكومة نتنياهو بتوسيع الاستيطان ليخترق كل أوصال الضفة الغربية وليحوّل القدس إلى شبه مستعمرة صهيونية، لأدركنا حجم المأساة التي يمكن أن تنتظر الشعب الفلسطيني، ليس فقط في مخيمات الشتات في لبنان وسوريا، بل خاصة داخل كل أرض فلسطين.
والسؤال الذي يطرح نفسه اليوم يتجه باتجاه الموقف الذي ستتخذه قوى اليسار الفلسطيني في مثل هذه الحال... خاصة وأن الدبلوماسية الأميركية تحاول، عبر مشروعها الجديد الذي لقي مباركة ملكي السعودية والأردن، تحقيق انتصار جديد لها ولحليفتها إسرائيل.
لقد صوّر جون كيري "الاتفاق – الإطار" الذي صاغ مراحله الأولى (ويسعى لتحويله إلى واقع خلال شهر نيسان المقبل) على أنه شبيه بـ"لعبة البازل" (Puzzle) التي يتم تركيب قطعها تدريجياً وبعد تفكير دقيق. وقد نجحت هذه اللعبة، حتى الآن، في تأمين مصلحة الكيان الإسرائيلي وفي رسم صورة "الوطن اليهودي" الذي يريد..
فهل سنشهد انقلاباً في لعبة "البازل" التي تركّبها الإدارة الأميركية وفق مصالحها ومصالح حليفها الاستراتيجي، إسرائيل؟
بكلمة أوضح: هل سينتفض اليسار الفلسطيني ويعمل على رفض المشروع الأميركي التصفوي واستعادة المبادرة وإطلاقها على أسس جديدة؟.