مجتمع مدني

قارع أجراس الفرح / النصير عمار علي

حفيد مهاجري الجنوب، جده أقام منزله القصبي التي تخترقه الشمس والرياح والامطار قرب مراقد الاولياء، يقطن على تخوم المدن ، في الاكواخ والصرائف كانت صرخته الاولى. بدأت رحلته في الحياة، معفرة بالعذاب. من غبار مدينة الثورة نسج عشقه للناس. صعودا الى الجبال يختطف زهرة الكون ، يصارع وحوش العتمة. سليل مملكة الفقراء ، المحارب الذي أيقن ان الثورة خلاصه الابدي. لم يعرف زيف اللغة، ولم يتحذلق في محافل الكلام ، متفرد في الوجود. لقد اصطفى طيفه الطبقي بعناد وبساطة وتفاؤل وحلم متوهج .
ليالي شباط طويلة وباردة. عشر ساعات مشيا في تضاريس عنيفة . شعاب وممرات يخبئها الظلام .وكان الثلج رملا صحراويا هشا، رذاذ الثلج الطائر يلفح وجوهنا ، يقشر بشرة الخدود الطرية الناعمة. رحلة ليل جهنمي عدواني طويل الالم. عرق ينضح وريح باردة ، لا أدري كيف لهذا الجسد ان يتغلب ويدحر قوى الطبيعة وابالستها. كأننا نقتفي اثار الحجل البري. نلاحق عرزائيل السفوح. نقبض على حلم في جوف المغاور.
بدأت عتمة الفجر تتلاشى وخيوط ضوء تتلألأ عبر منافذ الجبل. ملامح الاشياء فوق الاديم الجبلي تتكشف. كانت ظلال وأفياء ألصباح الناعسة تغطي متن الجبل العملاق ، صخوره الناتئة واكماته الملتفة حول صخوره السوداء وبخاره المتصاعد تشكل مشهدا يثير الرغبة في شيء ما مغروسا عميقا في الروح ، سحر المكان أضاف طاقة روحية من الاسترخاء الغريب. صوت هدير النهر الافعواني الضيق ، يرفع ايقاع التوتر. مررنا بمحاذاة النهر مثل جوقة مكتشفين ، نتطلع الى المكان بشغف الاكتشاف الاول. في الجانب الاخر منه كنا نرى بيوتا حجرية صغيرة متلاصقة ? نوافذها صغيرة مغطاة بنايلون ابيض فوقه اثار تراب وطين، يخرج منها دخان اسود ، يشبه دخان معامل المدن الكبيرة.
أمام هذه الغرف تقف شجرة ورجل يلوح بيده الى الدليل فرحا بوصولنا .
الاشياء والماء والاكواخ الحجرية والكلك المربوط بالحبال على ضفتي النهر التي تراقصه امواج النهر من جهاته الاربعة. الرجال المدججون بالأسلحة، بشعورهم ولحاهم الطويلة ملفعون بيشاميغ حمراء سميكة واسعة، نقوشها سوداء تقيهم ريح النهر الشتائية، تشبه عمامة كوديا الحكيم. المشهد يحيلك الى بيوت القصب الاسطورية. عالم مثيولوجي . طفولة البدء تتجلى هنا بعنفوان فائر . رائحة الخبز والشاي تستدعي اليك صورا وحكايات ومصائر الاهل ، في الامكان القصية التي تحرقها نيران الحروب.
من تلك الغرف الطينية الصغيرة، يخرج رجال غرقى النوم الليلي الدافئ. كأنهم خارجون من كهوف قديمة. صامتون يؤدون تحية الصباح بصعوبة بالغة. يتوجهون الى ضفة النهر ، يغسلون وجوههم صامتين . يلف احدهم لفافة تبغ ، يشعلها ويدفع دخانها نحو الفراغ . صوت فيروز بين هدير الانهار وسديمها الازرق واجواق العصافير ومواء القطط ، يشبه تراتيل المعابد. ربما كانت سفن الآلهة ترسو هنا، يصيدون طيور القبج وضباء الجبل ، مطاردة الوعول و صيد الاسماك عند عطفة الخابور في وادي كوماتة العريق. وادي الصخر العنيف. جنة الماء والاشجار والوهم الجميل.
يخرج رجل ضاحك يحيل الصمت الى كوميديا ويشتعل الفضاء بالضحك. يلتقط الاشياء النادرة ، يحولها الى سخرية، ربما قسوة المكان تستدعي وجود قوة رفض الواقع العدائي الثقيل. قوة تكسير حجر القسوة. تهزم اليات الضجر والرتابة. كان يراوغ جنيات الطبيعة، يعاند موج العزلة الهائج. كان يستقبل القادمين الى جنة الوادي الموحش بالزغاريد والاغاني والحنين.
يحمل أثقالهم ، ينزع عنهم وعثاء السفر الطويل. لقد احال أوجاع رحلتنا واعباءها الشاقة ، الى حالة فرح أنطلق من أعماق الروح.ازاح عناء تراب الليالي الثقيلة. بدد صمتنا وسكوننا المكلل بأنين الجسد .
كان مثل الام التي لا تنام ولا تهدأ. هذا هو العامل الشيوعي (حاتم محمد نمش) النصير ابو كريم !