مجتمع مدني

رسالة الى أخي(مجهول المصير) / سهاد ناجي

جلَستْ امام عتبة الدار تتأمل القادمين من بعيد، وقد استظلت بفيء شجرة سامقة امام دارهم في احدى قرى محافظات الفرات الأوسط، عسى ان يحمل السراب البعيد بعضاً من ملامحه. لكن لا جدوى، فالقادمون هم هم، ولا تغيير لحد الآن.
اخذت النسائم تحمل حبيبات تراب الطريق وتذرها في عينيها، ما حدا بها لأخفاء وجهها بكلتي يديها، وحين رفعتهما رأت عودا يابسا قد سقط من تلك الشجرة، وبلا شعور تناولت الغصن وكسرته ليكون كالقلم، وبدأت بالكتابة على تراب الشارع وبأحرف مرتجفة:
الى أخي المفقود...
اكتب لك بما آل اليه حالنا بعد رحيلك، حين تلقيت مكالمة بالهاتف النقال تبلغك بضرورة الالتحاق بمعسكر التدريب، ثم انقطعت أخبارك عنا. وبعد فترة شاهدنا على شاشة التلفاز لقطة يظهر فيها بعض من زملائك يساقون كالغنم من قبل مجرمين قتلة. لم نشاهدك وقتها معهم، ونعلم بان السبب هو أنك قوي وغيور لا تقبل ان تذعن لهؤلاء. أمي لم تصدق ما شاهدته فأغمي عليها ولم تستطع المشي مُذّاك الوقت، كما انها ترفض ان نفتح الباب لأي طارق خوفا من خبر مؤلم. اما انا فاتخذت لي موقعا امام الباب بانتظارك على أمل ان تأتي من بعيد ولو للحظات بسيطة.?واجلس امام عتبة الدار التي طالما لعبنا ولهونا كثيرا أمامها.
أتذكر.. حين جررتني من جديلتي بعد ان شكوتك لأبي بسبب رفضك ان ألعب في الطريق، وخوفا علي من السيارات القادمة. وذات يوم صرخت بوجهي بسبب خروجي لوحدي وتأخري عند بنت الجيران. وربما تتذكر بأنك اول من اصطحبني للمدرسة واخترت لي مكانا بين الطالبات، وأول من استقبلني عند عودتي منها.
أفكر دائما كيف استقبلك عند عودتك: بفرح كبير و بدموع قليلة، وكيف أزف الخبر بضجيج وصراخ ام بهدوء وحب عميق.
كبرنا معا وتشاركنا الطعام والمكان وكثيرا ما كنت تختار أزيائي، وتعطيني مصروفي اليومي. صحيح !!.. أبلغك بأن احدهم تقدم لخطبتي لكني رفضت الموافقة لحين عودتك، فمن يزفني غيرك، ويبدي رأيه بشكلي وترتيبي.
أتعرف أنني مازلت المع أحذيتك بحرص، وارتب فراشك وملابسك بعناية، كي تدرك كم أحببناك، كيف لا وأنت سندنا ومعيلنا الوحيد.
لقد اخترنا بنت أقاربنا عروسا لك، فقد كبرت واحلوّت وهي مؤدبة ومتعلمة، اتفقتُ وأمي ان تذهب معنا لتراها، لكن طال انتظارنا وانتظارها لليوم السعيد. فقلبي يعتصره الألم لكني اكذّبُ ظنوني.
ذوو زملائك الآخرين خرجوا في تظاهرات ويطالبون بمعرفة مصير أبنائهم، وقد « ذبّت « أحدى النسوة «شيلتها» أمام النواب. اعرف انه لو «ذبت» أحدى نسوة القرية «شيلتها» أمامك، لانتفضت وأتيت بالظالم واقتصصت منه وأرجعت الحق لأصحابه. لكنك غائب الآن ومصيرك مجهول، ولا احد يحرك ساكنا.. (بس لا ينسوك مثل غيرك).
ارجوك ارجع بسرعة فلم نعد نطيق الانتظار. لم تبق من أرجوحة منزلنا غير بقايا ذكريات.. عندما اركبها وتدفعني وتقول تمسكي، سأدفع بقوة بعيدا بعيدا بعيدا....