مجتمع مدني

14 تموز في ذاكرة شيوعيي الناصرية / داود أمين

ربما كانت(دار السيد مأمونة!) في ذهن معتنقها والمؤمن بها، جلاد العقود الأربعة الأولى من عمر الدولة العراقية، (الباشا نوري السعيد!)، لكن دار السيد لم تكن مأمونة لدى نخبة من الثوريين، الذين كانوا يفتحون بكلماتهم الواعية والمتفائلة، أذهان جمهرة واسعة من شتى طبقات وفئات شعبنا العراقي، فهؤلاء أدركوا تماماً أن الإستقلال شكلي، والعلم والدستور ومجلس الأمة(كلُ عن المعنى الصحيح محرفُ) على حد تعبير الشاعر الرصافي!
والفقر والمرض والجهل، أمراض مستوطنة في مدن وقرى العراق، ولا رجاء في إصلاح حال كهذا، إلا بثورة جذرية عميقة، تصنعها سواعد ثابتة وعقول نيّرة، وهذه الثورة آتية لا ريب فيها، هذه النخبة من الثوريين كانت تمتد على طول الوطن، متغلغلة بين جميع قومياته وأديانه وطوائفه، وكانت مدينة الناصرية واحدة من طليعيات مدن التحدي والتوعية والنضال، ففيها ولدت ونمت بذرة الشيوعية، وبين شبابها كانت روح الوطنية والأممية فياضة طاغية، لذلك لم يكن غريباً أن تسبق ثورة تموز شرارات وعي متقدم، تجسد في التظاهرات التي تصدت للعدوان الثلاثي على مصر، وفي نضالات الفلاحين ضد جور الإقطاعيين، وفي وعي مثقفيها وطلبتها،
يقول الرفيق حميد المياحي عن أجواء ماقبل ثورة الرابع عشر من تموز ووعي شبيبتها ومدى حقدهم على السلطة العميلة، أنه في عام 1952، وفي أحد الأعياد الدينية قلت لصديقي ورفيقي حميد غني(عيدك مبارك) فرد عليَّ بعبارة لا تزال ترن في مسامعي، إذ قال (لا عيد لمن لا حرية له!)، وجيل حميد غني وأمثاله كان يعي ما كانت تعيشه البلاد، لذلك كانوا يواصلون الليل بالنهار في العمل التنظيمي والتحريضي، من أجل إسقاط النظام الملكي الفاسد. ويكمل المياحي قائلاً، كنت كعادتي أعمل في العطلة الصيفية في محل للحدادة يملكه شخص يدعى(جبار ديوانية)، وكانت أجور العمال متدنية جداً، وصاحب المحل يتضايق من جلوسي وحديثي المتواصل مع العمال، وحثهم على المطالبة بزيادة أجورهم، وتبصيرهم بحقوقهم، وقبل يوم واحد من الثورة، أي في 13 تموز، إتفقت مع العمال على الإنقطاع عن العمل منذ الغد، حتى يرفع صاحب المحل أجورنا، وفي صبيحة اليوم التالي حدثت الثورة، وجاءني العمال مستفسرين عما يفعلوه، فقلت لهم لقد جاءت الثورة من أجل حقوقكم، وسيكون لزاماً على صاحب المحل أن يرفع أجوركم، أما أنا فقد تركت العمل ولدي مهام أخرى. بعدها إنخرطت في النضال الوطني العلني والمباشر، فقد نشط إتحاد الطلبة، وإتحاد الشبيبة الديمقراطية، ونقابات العمال والمعلمين، ورابطة المرأة، وجمعية الصداقة العراقية السوفيتية، وكانت لكل من هذه الشرائح جمهورها وبرامجها الإجتماعية والثقافية والمطلبية.
الرفيق ممدوح سمَّير يضيف قائلاً : إن محلية الناصرية التي كان يقودها الشهيد الدكتور (عبد الرزاق مسلم) كانت متهيأة للحدث، وخصوصاً تنظيمها الطلابي الذي كان مسؤوله العلني الشهيد (إبراهيم عبد الوهاب) ومسؤوله السري المرحوم (محمد حسن مجيد) شقيق الشاعر المعروف (رشيد مجيد) لذلك تم إستقبال الثورة في ساعاتها الأولى بتظاهرات طلابية وجماهيرية واسعة، وكانت صورة الزعيم المصري جمال عبد الناصر، المنسوجة على شكل سجادة، قد خرجت من بيت الرفيق المرحوم (شاكر شناوة) حيث حملها بنفسه وسط التظاهرة، إذ لم تكن هناك صورة لقائد الثورة ولا لأحد رجالها. ويضيف الرفيق ممدوح: في اليوم التالي للثورة إلتقى الرفيق سيد حسون بوفد من بعثيي الناصرية بينهم معاذ عبد الرحيم وجبار الشيخلي ورشيد وحيد وتحسين السوز، وإتفقوا على توحيد الشعارات، على أساس أن الحزبين في (جبهةالإتحاد الوطني)، وفي اليوم التالي فوجئنا بحيطان شوارع الناصرية، وهي تحمل لافتات موقعة بإسم حزب البعث فقط، وكانت تلك بداية الخلافات، التي تفاقمت مع زيارة عبد السلام عارف للناصرية، يكمل الرفيق ممدوح قائلاً: بعد الثورة بعشرة أيام زار الناصرية عبد السلام عارف مع فؤاد الركابي وناجي طالب، وفي خطابه أمام جماهير الناصرية قال عبد السلام عارف (يا أبناء فؤاد الركابي!) فإنبرى له الشهيد (إبراهيم عبد الوهاب) قائلاً (لسنا أبناء فؤاد الركابي..نحن أبناء من تعلقت رؤوسهم على أعواد المشانق) فرد عبد السلام بكلمة بذيئة (إنجبوا إكلوا....) بعدها حدث هرج ومرج وصدامات بين المتظاهرين، وفي المساء واليوم التالي تم إعتقال أكثر من 55 شيوعياً بينهم (كريم شكر المصور، إبراهيم عبد الوهاب، سيد حسون، أحمد ملا خضر، طالب ياسين، علي هداد، علي حسين علك، ممدوح سمير، وغيرهم) وبقي الموقوفون حوالي 45 يوماً قبل أن يطلق سراحهم، بعد ان زار وفد من أهالي الناصرية الزعيم عبد الكريم قاسم، وأسمعوه شريط كاسيت، يتضمن ما قاله عبد السلام عارف في خطبته البائسة!
الرفيق ماجد شناوة تحدث أيضاً عن أجواء ماقبل ثورة 14 تموز، وعن العدوان الثلاثي على مصر وكيف تصدر شيوعيو الناصرية تظاهرات التنديد بالعدوان والتضامن مع شعب مصر الأبي، وكيف عاقبت السلطة قادة التظاهرات، بتوقيفهم وبإرسالهم جنوداً، إلى معسكر في راوندوز، وبينهم شقيقه كاظم وعاجل كريم ومنعم القيسي وغيرهم. أما عن صحيفة الحزب المركزية (إتحاد الشعب) فقال الرفيق ماجد إن منظمة الحزب في الناصرية بادرت لتأسيس مكتبة أسمتها (الوعي الوطني) تقع في السوق الرئيسي، إلى جوار مكتبة (الأهالي) التي يملكها (جبر غفوري)، وقد سجلت المكتبة بإسم الرفيق صاحب محمد (أبو سلام)، ومعه شقيقي المرحوم كاظم شناوة، ثم إلتحق المرحوم حميد الديك بالمكتبة، ولم يقتصر دور المكتبة على بيع وتوزيع صحيفة إتحاد الشعب، بل كانت توزع أيضاً صحف الإنسانية والحضارة والكتب والمنشورات التقدمية، وعندما منع حميد الحصونة دخول (طريق الشعب) للناصرية ولستة ألوية أخرى، كانت تابعة لسلطته العسكرية، أخذ الرفيق كاظم شناوة يذهب سراً لمحطة أور، ليتسلمها من القطار النازل للبصرة، حيث توزع سراً في الناصرية، وكثيراً ما كان كاظم يصادف في محطة الأور، رجل الأمن المعروف (عفون) الذي يتسائل (ها كاظم شعندك هنا؟) فيرد كاظم جاي أودع لو أستقبل صديق!)، ولم تكن الكذبة البيضاء تنطلي على (عفون) لكنه كان يتظاهر بالتصديق!.
وفي ناحية (قلعة سكر) التابعة لقضاء الرفاعي، لم يكن الوضع مختلفاً عما هو عليه في مركز الناصرية، يقول الرفيق (هادي كويّن جبر) إن إنتفاضة الحي القريبة من مدينتنا عام 1956، كان لها تأثير كبير على سكان المدينة، والهب إعدام الرفاق عطا الدباس و علي الشيخ حمود حماس الناس، وكان لمثقفي المدينة وشيوعييها دورهم في تعبئة الجماهير، وأذكر من بين هؤلاء الرفيق عبد الله علي الحسون، لذلك لم يكن مفاجئاً، أن تستقبل القلعة ثورة تموز، بتظاهرات عارمة، كان يقودها الرفيق (بلاسم غدَّير) حيث خرجت الجماهير من كل بيت وشارع، ومع مرور اسابيع وأشهر الثورة الأولى، نشطت الجمعيات الفلاحية وإتحاد الطلبة وإتحاد الشبيبة الديمقراطي ونقابات العمال والمعلمين ومختلف المهن الأخرى، التي ضمت المئات من الأعضاء، ونشطت في العمل الإجتماعي والثقافي والتعبوي، وأذكر جيداً حفلات الختان المجاني التي كانت تقام للأطفال الفقراء، والدشاديش البيضاء التي كانت تمنح لهم، ومساعدة الفلاحين في كتابة العرائض المُطالبة بحقوقهم، كما نشط العمل المسرحي، خصوصاً الفكاهي الذي يتناول رجالات العهد البائد، لكن المؤسف أن تلك الأجواء المنعشة لم تستمر، فتحت شعار (يا أعداء الشيوعية إتحدوا) تجمع البعثيون والقوميون وأزلام النظام السابق وبقايا الإقطاع، وتم تأليب قادة الثورة ضد الشيوعيين والديمقراطيين، وبدأ رأس الردة يظهر منذ عامي 1960 و1961، حيث زُج بالمئات في السجون وبدأت الحرب ضد كردستان، وحوصرت صحيفة الحزب المركزية (إتحاد الشعب) ثم أغلقت، وكانت تلك مقدمات طبيعية لإنقلاب 8 شباط الأسود عام 1963، والذي أجهز على كل مكتسبات الشعب، وأدخل العراق في نفق لم يخرج منه حتى الآن.