مجتمع مدني

طالب مكي يستذكر ثورة 14 تموز / أجرت الحوار: مها طالب

الفنان طالب مكي من الفنانين التشكيليين الذين عاصروا قيام ثورة 14 تموز المجيدة. وقد اهتمت الثورة بالفن مثلما اهتمت بمجالات الحياة الأخرى وقد ازدهرت الثقافة واغلب الفنون بعد قيام الثورة وتوفر الحرية والدعم الذي أبدته هذه الثورة التي عملت على توفير الظروف الجيدة والملائمة لبناء بلد خرج من حكم ملكي بغيض. ومثل الفنانين الكبار كان للفنان طالب مكي انجازات وفعاليات مثلت له مرحلة ما زال يتذكرها ويتذكر أجواء الحرية والانتصار التي عاشها الشعب العراقي آنذاك...
وكان هذا الفنان قد ولد في مدينة الشطرة عام 1936، في مكان جميل يشقه نهر الغراف وكورنيش من اجمل الشوارع وعليه مقاهي من اجمل المقاهي، والده السيد مكي السيد جاسم شاعر ومحقق ومؤسس مكتبات، اسس العديد من المكتبات في محافظات العراق مثل المكتبة العامة في الديوانية ومكتبة الطفل العربي في بغداد وغيرها من المكتبات، وقد حقق في كتب مثل تمحيص البيان في مجاز القرآن للشريف الرضي، وكان له مجلس ادبي يقام في منزله كل ثلاثاء، دخل الى قسم الرسم فاخذ الاستاذ فايق حسن يدربه على التخطيط، وبعد ذلك حاول ان يذهب الى قسم النحت فكان جواد سليم يقول له: "اذهب لقسم الرسم لاتجي اهنا، طردني عدة مرات، لكنني ذات يوم وقبل ان يجيء طلاب قسم النحت دخلت القسم وكان هناك فراش زنجي فقمت بنحته، اكملته بسرعة خلال ربع ساعة، وجاء جواد وشاهد النحت واندهش فقال لي: لا تروح لقسم الرسم ابقى بقسم النحت، انت فنان بالفطرة.
في العام 1955 اقيم في مدينة المنصور اول معرض لمعهد الفنون الجميلة، فاختاره جواد سليم ليقدم بعض اعماله ومنها تمثال عملته صغير وعرضي وشاهده صباح ابن نوري سعيد واشتراه بمبلغ (15) دينار، واخر اشتراه سفير اوربي وثالث اشتراه السفير الاندونيسي، جواد اندهش من ذلك وقال: كيف تباع لي لوحة واحدة وانت تبيع ثلاثة، كان جواد دقيقا جدا عندما كان ينحت تمثالأً، فلديه مقاييس خاصة، كان يسألني من اين تعلمت النحت فأجيبه ان ابي كان يأتيني بالطين الاصطناعي.
لقبه جواد سليم بـ"أسد بابل"، لان جواد سليم يمقت المتحذلقين الذين يحلو لهم الثرثرة ويكره الكلام الزائد، ولأن اسد بابل اشبه بالمستودع الكبير للقصص والاشعار والحوارات، والكلام الذي يمكن تأويله على انحاء شتى، فأنه يقف اعزلا ثابتا منذ آلاف السنوات ولآلاف العهود التاريخية فصمته المهيب يعلن عن بلاغته، وطالب مكي المنحدر من ارض الزقورات، وقد حمل صمته البليغ مثل اسد بابل، ويبدو لي ان طالب مكي اسعد حظا من الجميع لانه اجرى حوارات كثيرة مع جواد سليم لا من خلال الكلمات المؤلفة من حروف ابجدية او معان مجترحة من قاموس ولكنها حوارات روحية حميمية تتخاطر فيها العيون بالعيون والقلوب بالقلوب.
استذكارا لذلك العهد الجمهوري الفتي الذي عايشه هذا الفنان الكبير كان لنا هذا اللقاء مع شخصية فنية كبيرة بهذه المناسبة العظيمة ليتكلم لنا باسلوبه الذي لا يضاهيه فيه أحد عن تلك الظروف والأجواء التي شهدها آنذاك:
ماهي اهم الاعمال الفنية التي انجزتها في زمن ثورة 14 تموز؟
ـ كانت معظم اعمالي مشاريع شخصية في تلك الفترة واغلبها نحتية حيث كنت ابلور اسلوبي الخاص في تمثيل الاشكال، الا انني قد انجزت منحوتة جدارية تمثل موضوع الثورة وذلك اثناء مشاركتي في معرض نحتي جماعي بمناسبة مرور عام على اندلاع الثورة عام 1959 وقد كان تكوين العمل ذو طابع احتفالي حيث اقتصر على اشكال رجل وامرأة يحتفلان بعطاء الثورة.
ما هي الأجواء الثقافية والفنية التي أعقبت قيام الثورة؟ وما تأثير هذه الأجواء على الفنانين التشكيليين بالذات؟
ـ كانت حركة الفن نشطة جدا وقد كانت امتداداً للمعارض الفنية التي اقامها الفنانون الرواد بعد تأسيس جمعية الفنانين التشكيليين 1956 وكذلك معارض جماعة بغداد للفن الحديث، وقد طرحت اعمالاً عديدة تمثل موضوع ثورة 14 تموز من خلال المعارض الجماعية التي تقام بهذه المناسبة، واجمالا كانت فترة الخمسينيات والستينيات فترة غزيرة الانتاج ثقافيا وفنيا وهي فترة زمنية عزيزة جدا على قلبي وتمثل بالنسبة لي الشكل الجميل والحقيقي لبغداد. واذكر على سبيل الحصر استاذي الفنان الكبير جواد سليم والفنان فائق حسن والفنان عطا صبري ونوري الراوي واسماعيل الشيخلي واكرم شكري وغيرهم...من الفنانين الرواد .
عاصرت العمل في اقامة نصب الحرية؛ فما الذي تتذكره عن ذلك العمل الفني العظيم؟ وما هي مشاعرك تجاه الفنان جواد سليم؟
ـ نصب الحرية هو عمل فني متكامل وعظيم، و انا افضله على اي نصب فني في العالم، كل شكل فيه هو عمل فني كامل بحد ذاته الحصان والمتظاهرون، المرأة الباكية، الجندي، الفلاح، والعامل كلها تحمل احساس وحياة العراق، والعظيم في جواد سليم انه لم يمجد شخصية الزعيم عبد الكريم قاسم، بل مجد حياة شعب بأكمله وهذا هو سر خلوده انه عمل عظيم جدا. وكان الفنان جواد سليم استاذ عظيم شديد الحرص والعطاء وكان له تأثير كبير في نفسي وكنت شديد الالتصاق به وقد تعلمت الكثير منه انه رجل عظيم، وقد كان جواد يمنح حرية كبيرة في التعبير ويحرص على ان يجد تلميذه اسلوبه الخاص به، عندما صنعت اول تمثال بأسلوبي الخاص وهو تمثال فتاة نصفي وضعت التمثال الجبسي في المعهد وعندما اتى جواد اعجبه كثيرا فقرر ان يتولى هو عملية تلوينه وقد لونه باللون الرمادي مع قبضة من التراب مسح بها التمثال فمنحه لونا غريبا ، وقد كان ان لوَّنَ تمثالاً آخر لي (وجه رجل) كنت قد انجزته خلال ربع ساعة فقط وقد كان التمثال اختبارا مدته ثلاثة ايام، لقد كانت ثقة جواد سليم بقدراتي الفنية كبيرة حيث سمح لي بالمشاركة في المعارض الفنية التي كانت تقام في نادي المنصور مع اساتذتي الفنانين الرواد وكنت وقتها طالبا في الصف الثالث في المعهد، وحين تخرجي من المعهد بترتيب الاول على قسم النحت، قدم جواد سليم طلبا الى وزارة المعارف في منحي شهادة الدبلوم لأنني كنت تلميذا انفذ الجانب العملي من الدراسة فقط بسبب اعاقتي في السمع والنطق، ومنحت وفقها شهادة الدبلوم وهو فضل كبير لأستاذي الكبير جواد، وعندما رحل عنا، قمت بنحت رأسه بحجم كبير تعبيرا لأمتناني الكبير له، وقد تم عرضه في المعهد خلال الحفل التأبيني بعد مرور اربعين يوما على وفاته، ولا يزال الرأس موجودا في المعهد، وكذلك قمت بنحت تمثال كامل له قمت بأهدائه لاحقا الى جمعية الفنانين التشكيليين.
أنت من الذين لهم دور كبير في اصدار مجلتي والمزمار وعاصرت بدايات دار ثقافة الأطفال، فمتى بدأت هذه العلاقة الحميمة؟
ـ عندما تأسست مجلتي عام 1969 كنت وقتها اعمل معلما للرسم في معهد الصم والبكم وقد اطلعني الفنان المرحوم ابراهيم زاير على فكرة الرسم للاطفال ومشروع مجلتي وقد قابلت السيد ابراهيم السعيد مؤسس مشروع مجلتي ووافقت على الانتقال الى العمل كرسام اطفال في مجلتي منذ تأسيسها مع بسام فرج ووليد شيت وصلاح جياد وفيصل لعيبي، ولم يكن الرسم التوضيحي غريبا علي تماما حيث كنت ارسم لمجلة (العاملون في النفط) منذ مطلع الستينيات، وبدأت ارسم لمجلتي والمزمار لاحقا وكذلك مجلة سندباد السلاسل المصورة والقصص والاغلفة وكذلك الكتب الى سنة 2005 تقريبا حيث توقفت عن انتاج هذا النوع من الفن. اضافة الى رسومي في مجلة الف باء واقلام وآفاق عربية والصحف وغيرها.
ويمتلك الرسم للاطفال خصوصية كبيرة وهو عالم مختلف تماما ويستلزم امكانيات فنية خاصة حتى يستطيع الفنان جذب الطفل برسومه وهو ليس مجالا فنيا بسيطا بل هو لا يقل تعقيدا عن اي مجال فني آخر ان لم يكن اكثر صعوبة، ولكنه متعة كبيرة وعالم خيالي كبير.
ما هو اسلوبك الفني، وعلى أي مدرسة تحسب أعمالك؟
ـ تنوعت اعمالي الفنية في العديد من الاساليب الفنية بين الواقعي والتعبيري والتجريدية الهندسية وكذلك تنوعت في مجالات الرسم والنحت والرسم التوضيحي والتصميم وكذلك الكاريكاتير .
وعن التمثال النصفي الذي عمله الفنان طالب مكي للشهيد سلام عادل تكلم عن ذلك العمل قائلا:
بعد الاطاحة بثورة الشعب ثورة 14 تموز عام 1963 عانى العراقيون بشكل عام من الاعمال الاجرامية التي مارسها الانقلابيون ضد ابناء الشعب الذين هبوا للدفاع عن الثورة، وكانت حصة المثقفين العراقيين من هذه الاعمال كبيرة جداً فقد سيق المثقفون بالالاف الى السجون واعدم الكثير منهم وكان القائد سلام عادل على رأس الذين اعدموا او صفتهم سلطة البعث آنذاك وانا فخور بنحت تمثال له ولكل مثقفي ومناضلي العراق، وما يعانيه الان البلد من تخلف وفوضى هي ترسبات لكل ما رسخه البعث في العراق من دمار وتخريب.