مجتمع مدني

قالوا في ثورة 14 تموز

لجنة بغداد وثورة تموز
ان منطقة بغداد التي كانت تبذل كل ما أوتيت من طاقات تنظيمية ومزايا قيادية اكتسبتها من سنوات العمل الطويل. وجدت نفسها في صبيحة الرابع عشر من تموز مدفوعة بالزخم الجماهيري وضخامة المهمات التي انتصبت امامها في ميدان تنظيم الحركة الجماهيرية العارمة التي أطلقتها ثورة تموز، وتعبئتها وقيادتها.
في عشية الإعداد لثورة تموز، كان الحزب قد أصدر بيانا ينبئ بأحداث هامة خلال بضعة أيام. وفي قيادة بغداد، احتفظنا بهذه الوثيقة دون أن نوزعها تمهيدا لقيام الثورة. غير اننا أجرينا بعض الاتصالات بمنظماتنا الحزبية وعرضنا التوجهات والشعارات الرئيسية للحدث الذي يمكن أن يقع قريبا.
في ليلة الرابع عشر من تموز استعنا بالعديد من الرفاق والأصدقاء في تهيئة بضعة شعارات استعدادا لصبيحة الثورة، ولكن الشيء الغريب والمدهش أنني عندما نزلت مع بعض رفاقنا الى شوارع بغداد، فوجئنا بغابة من الشعارات تنتشر في كل مكان. وهذا درس يتعلمه الإنسان من الثورة كونها تخلق الأعاجيب وان مبادرة الجماهير تفوق مبادرة وحكمة ووعي أي قيادة مهما كانت واعية ومدركة.
من شاهد تلك المظاهرات والمبادرات الجماهيرية التي حدثت في الأيام الأولى بعد انتصار ثورة تموز قد يستغرب انها من قيادة وتنظيم مثل هذه المنظمة ذات العضوية المحددة الإ اذا وضع في حسابه ما يمكن ان تفجره الثورات من طاقات مبدعة.
................................................

ثورة تموز حدث كبير في الحياة الأدبية العراقية
الدكتور عبد الاله احمد
(..حدث كبير ، غير من مجرى الحياة السياسية في العراق تغييرا شديدا، وكان ايذانا بتغيير كبير في الحياة العراقية العامة، اقتصادية واجتماعية و فكرية، لا يمكن أن يكون هؤلاء الأدباء بمنجاة من أثره المباشر فيهم. فقد شهدت هذه الفترة من تاريخ العراق الحديث ثورة وطنية كبيرة، هي ثورة الرابع عشر من تموز عام 1958، التي وفقت في تقويض النظام الملكي المرتبط بالاستعمار، واقامة نظام وطني جمهوري بدله.
والباحث في الأدب العراقي الحديث في هذه الفترة، يلمس أثرا مباشرا لهذا الحدث السياسي الكبير في الحياة الأدبية، يتمثل في كثرة الانتاج الأدبي، شعرا ونثرا، الذي يصادفه، خاصة في السنة الاولى للثورة، ولا يخلو بعضه من جودة فنية تذكر، بما يبدو معه للوهلة الاولى، وكأن الحياة الأدبية تشهد ازدهارا نشطا، يتضح في الأدب القصصي، في هذا العدد من المجموعات القصصية الهامة في تاريخ الأدب القصصي التي نشرت مثل (حياة قاسية) لشاكر خصباك و (عباس أفندي) لعبد الرزاق الشيخ علي، و (مولود آخر) لغائب طعمه فرمان عام 1959، و( الوجه الأخر) لفؤاد التكرلي و (غضب المدينة) لمهدي عيسى الصقر عام 1960، كما أتضح أيضا في كثرة القصص التي يلمسها الباحث في هذه الفترة، الى عاملين يتصلان بقيام الثورة اتصالا مباشرا:
أولهما: ان الثورة بما أشاعته من حرية في العراق، الذي ظل حبيس القوانين الجائرة التي تحد من هذه الحرية طيلة الحكم الملكي، أتاحت للعديد من قصاصي الخمسينات وغيرهم، أن يضموا انتاجهم القصصي المتناثر هنا وهناك الى بعضه وينشروه في مجموعات قصصية. وهو انتاج كان بعضه ما كتبه أصحابه قبل الثورة ولم يجرؤوا على نشره خوفا، أو كانوا قد نشروه مفرقا في الصحف والمجلات في العراق أو غيره، ولم تتح لهم الظروف المحيطة بهم آنذاك، ضمه الى مجموعة قصصية، وفي بعضه الكثير مما لا ترغب السلطات الحاكمة في العهد الملكي، أن تراه مطبوعا في كتاب يتداوله القراء العراقيون.
وثانيهما: ان الثورة، بعد تقويضها للنظام السابق، وشل مؤسساته البوليسية التي مارست اضطهادا وقهرا معروفين في تاريخ العراق، فقد هيأت المناخ الملائم للأدباء لكي يفجروا مشاعرهم الوطنية المكبوتة التي اختزنوها عميقا في نفوسهم، والتي كانوا يخشون الافصاح عنها طيلة العهد السابق، فاندفعوا يكتبون عددا من القصص، التي يمكن ان تعد من قصص الاستجابة الاولى للثورة، أدانوا النظام السابق، وصوروا ظلمه واضطهاده للعراقيين ، كما سعوا الى تصوير جانب من حياة الفئات الفقيرة المسحوقة منهم، توضيحا لما كان عليه حال الشعب من بؤس في العهد الملكي. كما كتبوا عددا آخر من القصص رحبوا فيها بالثورة. وصوروا ساعات قيامها الاولى، واستقبال الجماهير الملتهب لها، وما يأملونها على يديها من خير يعم ارجاء البلاد.
على ان هذا الأدب الذي نشر بعد الثورة، رغم كثرته وجودة بعضه لم يكن يشير الى ازدهار حقيقي في الحياة الأدبية، فالكثير منه كان أدبا آنيا يتلبس بالمناسبة ويرتبط بها، وتطغي عليه المباشرة في التعبير، ولا يخلو من تعليمية تزج فيه زجا، وليس فيه ما يصور العالم الجديد الذي جاءت به الثورة، كما لم يكن فيه ما يرقى الى مطامح الجماهير الغفيرة، التي بدت، وقتذاك، متفائلة فرحة، مستبشرة على نحو طفولي، لا يحسب للواقع الموضوعي حسابا.
...................................

ثلاثة جنود
(في الساعات المبكرة من صباح 14 تموز 1958، الجنود
يسيرون الى بغداد)

سعدي يوسف

البنت: في شحوب المساء
تطل علي النجوم
مضرجة بالدماء
ويخفت في الأرض حتى البكاء

الأب: هنا لا يرانا المطر
ولا يومض البرق بين الشجر
وحين أتانا الربيع
تيبس حتى احتضر

الحنطة: سنابل
سنابل
سنابل
وأنتم تموتون جوعا
الجندي الأول : سريعا .... سرعا
الريح :..آ....آ.....آ...ه....آ....آآ.....ه

الزوجة: رأيناه أمس قتيلا
على جدول من دم
وفي وجهه الأزرق المعتم
شممت الرصاص
الرفيق: لقد كنت اسمع صوتك
لقد كنت اسمع صوتك
الشارع: بصدري تلقيته
وفي القلب قبلته
لقد ظل يهتف حتى الممات
لقد ظل ينزف حتى الممات
وحيدا
الجندي الثاني: سنمضي..سنمضي
الريح: إلي.............ي....ي ...أل ....ي...ي...ه
*************************
الحبيبة: أذا رفرف الفرح في المنزل
بلون الهوى الأول
مضيت ادق البيوت
أنادي...أنادي: غسيل
غسيل
الكتاب: أهالوا علي التراب وفي قبري الرطب، في زوايا
تموت الحروف
وتشحب، تشحب ألوانيه
الجندي الثالث: معا رفيق السلاح
الريح: رفيق السلا ....أ............أح


بغداد
18-4-1960

****************************


الاثنين 14 تموز 1958
الشاعرمهدي محمد علي ( من كتابه البصرة جنة البستان)
(..كانت الجموع قد خرجت من بيوتها خروجا لا يشبه خروجها للكسلة في نوروز، أو للأعياد، أو المواكب الحسينية.. امتلأت الأزقة والشوارع والساحات بالناس والأصوات، وهي تتفجر بهتافات متشجنة ضد الملكية والاستعمار.. على نحو جنوني صاعق وغير مصدق، الى درجة أن البعض ممن كان يهتف ضد الملكية، كان لا يغير من ألقاب الملك شيئا إلا بإضافة كلمة (يسقط)!
كان فرحا جنونيا....وحقيقيا!
هؤلاء يهتفون، وأولئك يرقصون... وثمة أخرون وجلون وسط المعممة...والبعض ألقى بنفسه في النهر...وأخرون تسلقوا الأشجار، أو أعمدة الكهرباء، وأسيجة السطوح، ومنهم من وقفوا على (تخوت) المقاهي أو السيارات الواقفة، دون تفريق بين حافلة كبيرة أو سيارة (ستروين) كالضفدعة.
أكثر الناس كان لا يدري ماذا يفعل، والفرحة كانت أكبر من حجم النفوس التي لم يكن لها حجم... بل هي أحسست باتساع الإطار من حولها فجأة، فلم يدفعها ذلك، في تلك اللحظة، الى الانتفاخ كي تنفجر، قدر ما ركز حزنها الى حد اتقاد النار بين الأحشاء والتهاب الحناجر التي لم تصدق صداحها باليسقط واليعيش بذلك القدر من الحرية غير المنتظرة، والمنتظرة في الوقت نفسه... الحرية التي خلطت مكونات تلك النفوس المتوجعة! البكاء بالصياح، بالغضب، بالضحك الهستيري، بالهتاف الشديد، بالفرح الأهوج، بالحزن الراقص، بالحنين الغريب إلى شيء غريب، بالألفة الوحشية، بالزعيق ، بالنواح.. بكل شيء. الشمس التموزية الحارقة، هي ذاتها كانت نسمة عليلة باردة! الحفاة الساعون بجنونهم إلى لحظة الثورة، مثل من هم في كامل (قيافتهم) يسعون إلى مبنى (المتصرفية) رمز الملكية، وهو في الوقت ذاته محط أنظار القليل من الناس باعتباره سيكون لهؤلاء الناس...فهو لم يعد في حوزة الوصي والملك ونوري السعيد والمستعمرين... غير أن أكثر الناس كانوا لا يجرؤون، بل هم غير قادرين على تصور خروج هذه الأشياء من أيدي الملكية والاستعمار.....