مجتمع مدني

هل قدمت ثورة 14 تموز نموذج البطل الوطني؟ / كمـال يلـدو

تتزاحم الصور والمشاهد كلما اقتربت ذكرى ثورة 14تموز او انقلاب 8 شباط الأسود. صور تمتزج فيها الطفولة بالشباب، بالمكان وأرهاصاته والحنين الى ازقة ومحال نقشت على طابوقها اغاني وكلمات، في وجوه عاشت الذكرى ثم تشتت في فوضى الأحتراب وصخب الحياة وما عاد بالأمكان تجميعها. هكذا يفشـي شارع الرشيد ومنطقة رأس القرية بحنينه وطيبته للزعيم عبد الكريم، يوم اعادوا لهذا الأنسان جزءا من الوفاء، فأقاموا له ( ومن مالهم الخاص) تمثالا ، واقفا، شامخا ينظر نحو تلك الرقعة التي ارادها الأنقلابيون قبرا له، ثم صارت مزارا لعشاق الثورة عقب التغيير عام 2003، بعد ان كانت منصة تمجد القاتل.

يعيش في ثنايا عقل الأنسان في معظم الأحيان، عنصر يسحبه لمديات اعلى وآفاق ارحب، شئ يأخذ بيده، نســميه احيانا القدوة، وأحيانا اخرى الدالة، ومرات ندعوه بالملهم. هذا الشئ يتحول في الوجدان ، على صعيد الفرد او المجموع الى شــخصية ذات مزايا متفردة، وخصال نادرة، وربما قوة خارقة او حتى جســـد لايمسه الموت او المرض، ذلك هو الأله في موروثنا الرافديني، والبطل الأسطورة ايضا، ذلك هو البطل الوطني، الذي طالما بحثنا عنه ، وقلدناه كل ما نملك من مواصفات، واقعية كانت ام خيالية او ممزوجة من كلاهما. ليس نقصا في الطبيعة البشرية حينما تبحث عن البطل، انما هو التسامي بعينه والأعتراف بحقيقة تقترب من الواقع. اما تأريخنا ( القديم والوسيط) فيزخر بمثل هذه الشخصيات، على ان ما مر على العراق من حروب وأحتلالات وسيطرة العثمانيين، جعلت هذا (الرمز) مركونا جانبا، حتى تفتح زمن جديد وأفق ارحب مع بدايات القرن العشرين، وبزوغ العراق دولة مستقلة تسعى لأحتلال مكانها بين الأمم والشعوب، ولو ببطء!

تحدثنا كتب التأريخ عن العائلة المالكة، والحكم الملكي ورجالاته، عن انطلاقة العراق الصعبة، ورحلة المليون ميل في تأسيس الدولة العراقية، ووضع العراقيين على سكة المدنية والعمل المنتج المثمر والصناعة والعلم والتقدم، والأهم من ذلك كان في بناء مفاصل الدولة وانطلاقتها. هذه العملية لم تخلو من ابطال، او اناس متميزون، من مضحين ومن انتهازيين، من وطنيين ومن قادة سايروا الأجنبي ايضا. لكن عاملا مهما كان يوحد معظم هؤلاء القادة والسياسيين، هو الطبقة الأرستقراطية التي كانوا ينتمون لها، حقيقية كانت ام مزيفة. كانت هذه الشروط حاضرة في الأصل او المنزلة او الملبس او حتى بالتصرف العام، وما كان هذا غريبا اذا علمنا بأن العائلة المالكة يفترض انها تعود بالنسب الى النبي (محمد)، وبالتالي فهي معصومة، وهكذا كان على الوزراء ورجالات البرلمان ان يكونوا بمستوى هذه العائلة الأرستقراطية التي كانت تقلد الأنكليز بكل صغيرة وكبيرة، وحتى بالملابس الملوكية، وبأطقم الخدم والحشم والعربات الفارهة والقصور العامرة، والسفرات الملوكية المترفة.

بين تلك الصور، وبين صبيحة الرابع عشر من تموز1958، ترتفع صورة انسان، ليس من النسب الملوكي، ولا من الطبقات الأرستقراطية او الملاكين والأقطاع الكبار. كان من منحدر فقير ، وأبن عائلة متواضعة. تبرز شخصية الزعيم عبد الكريم قاسم، والذي كان يقول عن نفسه (بأنه ابن الفقراء، ولم يأت لمحاربة الأغنياء ، بل ليرفع من مستوى الفقراء الى مستوى اعلى). كانت هذه سابقة خطيرة في العراق الذي عرفه الأنكليز منذ ذلك الحين بغناه البترولي وبالمعادن والزراعة والمياه والموقع الأستراتيجي والطاقة البشرية. من رحم الفقراء بزغ نجم الزعيم، الذي لم يتنكر لأصله ولا ليوم واحد، بل بقى امينا على كل الخصال الطيبة التي تربى عليها، ولم يترفع على ابناء شعبه. بقى طعامه بسيطا، ومسكنه بسيطا، وملبسه بسيطا ...لابل ان مجمل سيرة حياته كانت هكذا.

لم تكمل ثورة 14 تموز الخمسة سنوات من عمرها، فقد اغتيلت وهي لما تزل في المهد ان صح التعبير، وها قد مـّر 50 عاما على انقلاب شباط ، و55 عاما على انطلاقتها. ولست مبالغا حينما اقول بأن 40 عاما مضت ، لم يتمكن العراقيون من الحديث عنها او عن زعاماتها التأريخية، لم يسمعوا عن قاسم الا كلام البعثيين (قتلة الثورة)، ومن اعداء اليسار والشيوعية ، او ممن لبس (عقال) العائلة المالكة ليذرف الدموع دررا على الحكم الملكي وعلى انجازاته التي اخذت 37 عاما، منذ تأسيس الدولةالعراقية. لقد استبسل البعث في دفن الثورة وأنجازاتها، وأزال ما استطاع اي شاهد عليها، لابل حتى قادتها الميامين لم يحضوا بقبور كما باقي البشر، ازيلت الأسماء والشعارات، وصار محرما الحديث عن قاسم الا بالسوء. هذا "الشعوبي الدكتاتوري الأرعن"، كما كانوا يصفوه في احاديثهم وأدبياتهم، او حتى في بعض الكتب التي سمحوا بأصدارها اواخر عهدهم، محاولين ذر الرماد في العيون، وقلب الحقائق عن تلك الثورة الشعبية الوطنية الباسلة، الثورة التي لم تدخل فيها الأيادي الأجنبية ولا سايرتهم، حتى صارت ضحية لهم على ايدي عملائها لاحقا.

لماذا بقي عبد الكريم قاسم حيا لليوم!
كنّا اطفالا، حينما سمعنا للمرة الأولى بأن بعض العراقيين شاهدوا صورة قاسم على القمر، وتكرر الأدعاء حينما هبطت ابولو 11 على سطح القمر، فقال البعض ان الأمريكان شاهدوا قاسم هناك، لابل ان بعضهم قال ان (الخميني) هو ذاته قاسم، بعد ان هرب وتخفى في ايران، وقسم كبير ظل حتى آخر سني حياته يثق بأن قاسم مازال على قيد الحياة وأنه فلت من ايادي المجرمين، لابل حتى المشهد الدموي الذي اقامه البعثيون وأعداء 14تموز في مبنى الأذاعة، لم ينجوا من التكذيب عند البعض،والسبب كما اظن، هو المنزلة والمرتبة التي رفع فيها الناس عبد الكريم قاسم، منزلة الآلهة البطلة التي لاتقهر ولاتموت.
لم ينل الزعيم هذا الحب والتقدير بالرشاوي او بالكذب والخداع، لم ينله بالتهديد او الوعيد او القتل، ناله بسبب انه كان انسانا حقيقيا غير مزيف، وصادق مع نفسه مثلما كان صادقا مع الناس.
ربما بسبب صغر سني، فأني لم اسمع قصص الزعيم حينما كان حاكما، بل سمعتها بعد مماته بسنين كثيرة، خلســة ، وفي الأحاديث – همسا- او من اناس عاشوها ، ولي يقين بأن بعضها معروف، وربما البعض غير معروف، لكن طبيعة القصص لاتخرج عن مواصفات وشخصية الزعيم، ليس فيها الخارق ولا العجائبي.
*ظل الزعيم امينا لمنبعه الفقير، فأنعكس ذلك في حبه لهم، وفي منحه اراضي للفقراء للمرة الأولى في تأريخ العراق، لابل المنطقة العربية كلها.
*آمن بتطوير العراق والقضاء على البطالة، فكان رائدا في افتتاح المشاريع الصناعية والأنتاجية التي ضربت ارقاما قياسية ، نسبة الى عمر الثورة القصير، والى سعة المناطق التي وزعت عليها تلك المشاريع.
*لم يكن غريبا ان نسمع بأنه كان يقوم ليلا بزيارة احد باعة الشاي الشعبيين(الجايجي) او زيارة معمل الصمون، او حتى ركوب باص المصلحة مع الركاب.
*لم يكن مبالغا فيه حينما كانت شقيقته او احد افراد عائلته يجلب له الطعام من البيت ب (السفرطاس) -
*كانت قصة الحماية امام منزله حقيقية – مكونة من شرطيين- وكان يسكن في دار مملوكة للحكومة وبأجار شهري، وفي منطقة شعبية، ســمي ذلك الشارع حتي تهديمه اواخر السبعينات ب شارع الزعيم، قرب ساحة الأندلس.او حتى في حراسته الشخصية المرافقة له، او اثناء تجواله في سيارته في الشوارع والأماكن العامة.
*نزاهته فاقت الوصف، ان كان في ممتلكات بيته او حسابه المصرفي او حتى في المبلغ الذي وجد في حوزته عشية اغتياله، ناهيك عن صدق نواياه تجاه الفقراء، يوم طالبته شقيقته بقطعة ارض، مثل باقي العراقيين الذين حصلوا على قطع اراض آنذاك، فأخذها الى منطقة (الصرائف) وقال لها: حتى يأخذ كل واحد منهم قطعة ارض، عند ذاك ستكون لك ايضا.
*في حياته الأجتماعية كان صوفيا بمعنى الكلمة، بقى بلا زواج، وحينما واجهته شقيقته بالزواج بعد نجاح الثورة، وبأنها ستكون سعيدة جدا في عرسه (نيابة عن امه التي توفاها الأجل)، قال لها:ان عرسي وسعادتي هي من سعادة هذا الشعب.
*في ملبسه كان متواضعا، ولم يظهر بأية بدلة مدنية، بل كان يلتحف بالبدلة العسكرية طوال مشواره، الا في المستشفى بعد فشل حادثة الأغتيال، او في صورة له في مكتبه في وزارة الدفاع وهو يهم بالنوم على (مندر) على الأرض وقد لبس البيجاما.
*في خطاباته، وفي المهرجانات والمناسبات التي كان يحضرها، كان بسيطا، يسّلم على الكل، ويومئ للكل، مبتسما وضاحكا، فرحا بهذا الشعب.
*لم تعلو اية قوة في احاديثه عن الشعب والوطن. كان وطنيا بأمتياز، وكان مناصرا لحركات التحرر التي تشهد بحجم الدعم المادي والمعنوي الذي قدمه لها.

اما حينما نتحدث عن الحقبة التي سبقته،37 عاما، والحقبة التي تلته، 50 عاما، فقد شهد العراق قادة وحكام ومسؤولين، كان معظمهم يتصرف مع الشعب وكأنه قطيع من الأغنام او الماشية، متعاليا ومتغطرسا. كان الشعب يخاف هؤلاء الحكام الذين تحولوا الى حيوانات كاسرة حينما وصلوا السلطة. حكام بسيارات سوداء، كانت تسير مسرعة وبأطقم كثيرة حتى لا يعرفها المتربصون! بدلات فرنسية واوربية وسباق في جمع انواع القبعات والأربطة والسيارات والحيوانات الأليفة وغير الأليفة. سجون من كل الأشكال، ودورات في التعذيب والأرهاب من كل العالم، حروب ودماء وتهاون في السيادة الوطنية والتنازل عن الأرض مقابل البقاء في الكرسي. جوع وفقر وملايين المهجرين والمهاجرين، انتشار الأمية ومحاربة العلم والعلماء وسيادة الجهل. تدمير للصناعة الوطنية وهدر النفط عبر التهريب والسرقات وتلويث الأراضي الزراعية، هدر لمياه العراق وتصحر نسبة عالية من اراضيه، تفشي الفساد الأداري وسرقة المال العام والمحسوبية والمنسوبية، وتراجع الدولة المدنية والقانون امام دولة المافيات والعصابات والميليشيات وحكم العشائر والقبيلة.
هذه صورة العراق اليوم، عشية الأحتفال بالذكرى 55 لثورة 14 تموز المجيدة، الثورة التي لا يعترف الحكام والمسؤولون بها عيدا وطنيا، ولا يقيمون الأحترام والتقدير لرجالاتها وشهدائها. هذه صورة العراق اليوم، هذا الذي ضحى الزعيم عبد الكريم قاسم ورفاقه الأماجد بدمائهم من اجله.

يقول "بوذا" في احدى عظاته:" آلاف الشموع تستطيع ان تشعلها من خلال شمعة واحدة، هذه الشمعة التي سوف لن يقل عمرها. هكذا هي السعادة، لاتنقص حينما تتقاسمها مع الآخرين".

من المؤكد ان اسم الزعيم عبد الكريم قاسم وسيرته الذاتية وخصاله الشخصية وأخلاقه السامية، هو ورفاقه الميامين، ستبقى تؤرق نوم الحكام الفاشلين، امس واليوم وغدا، وحتما سيكون الميزان العادل الذي يقيس به المواطن حكام اليوم، حتى بعد مرور 50 عاما على رحيله، سيبقى شامخا برمزيته الفذة، ابنا بارا للفقراء، ابنا بارا لكل العراقيين، او لأغلبهم، حتى تنجب هذه الأمة زعيما مثله، او افضل منه، وهي امنية ليست صعبة المنال ابدا. فمثلما لم نعرف عنه الكثير عشية الثورة، ها نحن نحتفل بسيرته الطيبة بعد كل هذه السنين، لأنه ببساطة كان وفيا للعراقيين، ويستحق ان نكون اوفياء لذكراه.