مجتمع مدني

البداية الاغنى / سعاد الجزائري

الحرف الاول يشكل الاتجاه للكلمة التي نريدها
الكلمة تشكل البؤرة لكل انعكاس ومعنى يأتي بعدها او حولها لنصل الى سطرها..
السطر يمتد ليعبر بحور التنوع الفكري كقارب يرفع شراعه كي يواجه عواصف تريد كسر ساريته..
السارية تتمايل دائما مع امواج ورياح تسوقها بين خوف مختبىء ومجهول كامن في مكان ما، قد يعرفه القارب...
قارب السارية تهزه الريح وتتقاذفه الامواج، لانهما يسيران بعكس الاتجاه، وهذا التضاد قد تقود نهايته الى الموت او البدء...
بهذا القارب المحاصر بالرياح والعواصف بدأت خطواتي الاولى في عالم صار مجهول الاهداف والغايات.. عالم الصحافة..
بدايتي كانت في اهم مدرسة اعلامية في سبعينيات القرن الماضي، وتحديدا في صيف عام 1974 عندما التحقت بثاني دورة اعلامية تقيمها جريدة «طريق الشعب»، وعينت بعدها مباشرة محررة في صفحة منوعات وصفحة المرأة عام 1975 لاكمل في هذا العام 2015 اربعين عاما في هذا العالم الذي اصبحت فيه الكلمة شهيدة قبل ان تكتب، لان كاتبها يغتال بسبب فكرة لم يسجلها بعد..
البداية عبارة عن جذر ينبت ما ستعطيه التربة التي ينمو فيها، وانا زرعت في تربة ضمت اهم الاسماء في عالم الثقافة والصحافة العراقية، فالدورة التي التحقت بها، حاضر فيها الاعلامي المخضرم،عبد الرزاق الصافي رئيس تحرير جريدة «طريق الشعب»، ومدير تحريرها آنذاك (مردوخ العراق) في عالم الاعلام فخري كريم، واشرف على الدورة مؤرخ الصحافة العراقية وصاحب الموسوعات الدكتور فائق بطي والدكتور كاظم حبيب الكاتب المعروف.. وحينما التحقت بالعمل في «طريق الشعب»، كانت تزهو يومها بألمع الاسماء من مثقفي واعلاميي العراق، بل الاسماء التي تصنف في مقدمة الاسماء الثقافية والاعلامية في ذلك الوقت.
الدورة التي التحقت بها، وهو اسلوب تفردت به جريدة «طريق الشعب»، التي كانت تقيم دورات سنوية تمتد لمدة شهر ضمت عشرين زميلا وكنت المرأة الوحيدة بينهم، واختيار المتدربين لا يتم اعتباطا، وانما يتم الانتقاء من المشاركين والمساهمين في رفد الجريدة بتقارير ومواد صحفية، ولها علاقة بعملهم المهني، او المدني وربما السياسي، ويتم تدريب هذه الكوادر لتشكل حزاما صحافيا ثانيا اضافة الى العاملين في الجريدة، وبهذا يشكل هذا الفريق شبكة اوسع لرفد الجريدة بمعلومات تتعدى العاصمة الى المحافظات كافة ، لان الكثير من المتدربين جاءوا من المحافظات وتم ترشيحهم على وفق معايير دقيقة من قبل منظمات الحزب الشيوعي في المحافظات.
تبدأ الدورة من الصباح حتى وقت متأخر من اليوم، اضافة الى التدريب النظري، يخضع المتدربون الى التدريب العملي ايضا.
جريدة «طريق الشعب» آنذاك تفردت بالكثير من الامتيازات والمهارات المهنية، فأضافة الى الدورات، كانت الجريدة التي تمتلك مكاتب صحفية في انحاء العراق كافة ، ويجتمع مدراء هذه المكاتب شهريا او بحسب الضرورة في مبنى الجريدة المركزي، خاصة عندما يبدأ وضع برنامج الاشهر الستة، وهو احد الامور التي تفردت بها «طريق الشعب»، حيث يضع كل قسم برنامجه والمواد التي ستنشر لستة اشهر مقبلة، وتوزع المهام على العاملين داخل الجريدة اضافة الى المكاتب الصحفية، هذا الاسلوب لا تخضع اليه الصفحات السياسية والاخبارية وانما الصفحات المتخصصة فقط: حياة الشعب، صفحة العمال، المعلمين، المرأة، الطلبة، الشبيبة، الاطفال.. الخ.
بداية غنية، وغالبا ما اقول اني كنت محظوظة لأني ابتدأت بمكان يصح ان نطلق عليه مدرسة اعلامية خرّجت اهم الاسماء في عالم الصحافة والاعلام وفي عالم الثقافة ايضا..
حينما يبدأ الانسان مع الكبار، عليه ان يجد ويجاهد لكي يصل الى اطراف ما وصلوا اليه، لذا كنت اقرأ واقرأ لكي اغني مفرداتي، واستمع لكل ما يقال حولي، وانتظر بلهفة الملاحظات التي توجه الي، لم اعترض يوما على نقد وجه الي لان من ينتقد في مثل هذه المدرسة يريد ان يبني خبرتنا، لا يهدم ما تعلمناه..
منذ عام 1974، السنة التي التحقت بها بتلك الدورة حتى الان اقول اني مدينة لذلك المكان الذي يقع وسط شارع السعدون، قرب سينما النصر، هناك تعثرت في البداية، واخطأت في اكثر من موضوع , لكن الجذر الذي نبت بهذا المكان اورق في حياتي معرفة مهنية، وصدقية في التعامل مع الاحداث التي مرت وتمر بي، هناك تعلمت ان الكلمة لا تباع ولا تشترى، والفكرة تصل الى مداها حينما تطرح بنقاوة لا تقل عن صفاء الزجاج..
لا ادري ما الذي حل بزملائي العشرين، لكني اعرف ان ذكرى هذه المجموعة ستبقى معنا طوال حياتنا، وحينما ذهبت الى مدينتي لنقيم دورة مركز الاعلاميات العراقيات بالتعاون مع مؤسسة المدى عام 2012، اقترب مني احد المتدربين، وقد بدا التعب واضحا على وجهه، وسألني:
- هل تتذكريني؟ نظرت في وجهه فترة طويلة لكني لم اتذكر ملامحه، فقال لي تلك الصورة ستذكرك بشخصي... كان احد الزملاء العشرين، واعطاني الصورة المنشورة مع تلك الخاطرة. فعلقت قائلة:
- كيف لي ان اتذكر وجوها رأيتها قبل اكثر من 38 عاما.. العتب على العمر، قد ننسى الوجوه لكن الذكرى تبقى راسخة لانها البداية، البداية الاغنى..
«طريق الشعب» مدرسة خطوتي الاولى في عالم الصحافة والاعلام الذي لم امتهن غيره طوال حياتي..
اين تختبىء تلك الاماكن التي يدور حولها البحث، والبحث يدور حول الهدف، والهدف يتمحورحول الغايات السامية