مجتمع مدني

وعيون من طراز آخر / صادق الصائغ

احيانا، يمكن حتى للصدفة ان تكون طريق استدلال، فهي ما اوصلتني الى شاكر اسماعيل المعروف بين ابناء محلتنا بلقب مازح هو شاكروف شاكروفسكي وهذا بدوره اوصلني الى الحزب الشيوعي ، وشاكر لمن لا يعرفه هو كاركتر خاص غير اعتيادي ، ظهر في محلتنا ( الازرملي ) نزيلا في بيت ام عزيز، وهي كأبنائها الاربعة تؤمن بالحزب وتنظر اليه كباب للفرج . المرويات التي تحكي عن شاكر تقع، بالنسبة لي، في باب المدهش والمثير للفضول، وهي كافية، بعد اضافة تنقيحات قليلة او كثيرة ، لتجعل منه مختلفأً ، فهو صحفي يكتب في الجرائد ،وانا ( لحيمي غشيم ) يحلم بالصحافة، هو صاحب غرابات يختلط فيها الجد بالهزل ، وانا خجول لا اجرؤ غلى قولٍ بين من هم اكبر مني سناً، هو حسب المرويات ايضاً ، عصامي حقيقي ، ورغم انه خريج مدرسة للأيتام، ، فقد استطاع ان ينتزع جائزة وزارة المعارف لأفضل قصة قصيرة، مع انه لم يكن يقرأ القصص، كما ذكر لي لاحقاً . وأليوم وانا ابحث في ذهني عن سبب لـ (تلك الميانة) التي طبعت علاقتنا السريعة ونقلتها من موقع العشوائية الى موقع الجد، لا اجد سبباً يفسرها غير تلك الفطرة التي تتصف بها شخصية شاكر والتي تلغي منذ اللحظة الاولى، المسافات بين الصغير والكبير. لقد ظننته هازلاً حفاً يوم طلب مني بعد ان عرضت عليه ، وأنا في غاية التردد ، بعض محاولاتي الشعرية، ان اذهب الى سجن بغداد المركزي، الواقع في باب المعظم، لتغطية مباراة رياضية في كرة السلة تجري بين فريق السجناء السياسيين وفريق السجناء العاديين لصالح الجريدة التي كان يعمل بها واظنها كانت جريدة الشعب لصاحبها يحيى قاسم ، ومع كل دهشتي التي، تحولت الى رفض قاطع ، بسب جهلي بالف باء الرياضة، فكيف لي وانا اجهل حتى الف باء الرياضة ان اكتب عن مباراة رياضية، وما سيكون نوع هذه الكتابة التي تبدأ بدخول سجن، وكيف سأدخله وانا لا احمل هوية صحفيين ووو.. الخ الخ! لكن- ومن يصدَق هذا؟!- ها هي فكرة شاكر العجيبة تتحول، بين الجد والهزل، الى مغامرة لا ينقصها حب الاستطلاع، صحيح انها مغرية وفي نقس الوفت غير مأمونة العواقب، الا ان شاكر كان يقول، بعد ان زودني بقصاصة تزعم اني فلان الفلاني ومكلف بتغطية المباراة
اجلس في الصف الامامي ، مرحباً بي ، على ارتباكي، من قبل مدير السجن نفسه ، وفي نفس الوقت ، مورطاً بورطة لا اخت لها، فبين اعضاء الفريقين المتنافسين كان هناك شخصان ضاعفا قلقي الذي تلبسني منذ البداية، الاول هو نهودي ، ابن محلتي، الذي اهلته معاركه التي لا تعد ولا تحصى بحمل لقب " شقاوة " ، وهو استحقاق خطر لا يحصل علية الا من له سجل رجولي مشهود ودخل السجن مرات ومرات ، وهو الآن بمركز كابتن في فريق السجناء العاديين ، والثاني ويا للمفاجأة كان المناضل الشيوعي الدكتور صباح الدرة الذي اغتيل بعدئذ على يد البعثيين، يومذاك كنت اعرفه بالشكل ولا يعرفني هو ، والمشكلة القائمة هنا هي ماذا لو خاطبني نهودي، باعتباري احد ابناء محلته بأسمي الحقيقي امام الآخرين، وأي ظنٍ سيحمله عني الثاني فيما لو التقينا في مناسبة اخرى خارج السجن ؟!!
اجهل كيف مر الوقت يومذاك ، فما كنت افكر في تلك الساعة الا بكيفية الافلات من هذا المأزق، وكما يبدو، فأن لحالات الحصار بريق يطلق مضادته لمن هو في مثل حالي، فما ان انطلقت صفارة الحكم ، معلنة الاستراحة الاولى يتبادل فيها الفريقان المواقع،حتى نهضت،وعلى شفتي نفس الابتسامة التي تسلحت بها حين دخلت، مستأذنا مدير السجن الذهاب الى دورة المياه. ولم يكن تعليق شاكر على هذه الرواية التي حكيتها له وانا غاضب الا ضحكة صاخبه اعقبها بالقول
- صدقني، هذا سيكون درسك الاول في الصحافة ، وتأكد انك لن تنساه ولن تندم على ما ستدفعه من اثمان في المستقبل، مقابل دروس اخرى .
قال ذلك بنوع من الاحترام، على غير عادته التي تخلط الجد بالهزل، وهذا ،كما اعتقد،لأني ضمّنت تقريري الذي كتبته، اعتمادا على ما تتبعته في الفصل الاول من المباراة ، تلميحاً غير مباشر يشير الى اوضاع السجن والسجناء, وطبعا دهشت حين رأيت ما كتبته مع بعض التنقيح ونتائج المباراة التي اضافها شاكر، منشوراً على صفحات الجريدة .
درسي الثاني تعلمته ايضا من شاكر اسماعيل ، وهذه المرة لأعرف ان الشجاعة التي يتحلى بها شاكر هي فضيلته الاولى، وأ نه، على خلاف "حسجاته" السياسية التي تتجاوز في احيان كثيرة ممنوعات ذللك الزمن ، والتي هي جزء من حياته اليومية، كان جادا اشد الجد في ما يتعلق بمواقفه السياسية ازاء الحكومة، فقد تسنى لي عام 1952ان المحه ، بعد أن ترك سكناه في الازرملي وانقطعت عني اخباره لفترة ما ،يتحرك قلقاً بين جموع كانت تتهيأ لإطلاق تظاهرة من منطقة سيد سلطان علي بمناسبة تأميم محمد مصدق رئيس وزراء ايران حقول النفط الايراني واضطرار الشاه الى الهرب الى بغداد طالبا نجدة من حكومة بغداد . كان واضحاً ان حظ التظاهرة في الاكتمال ضئيل ،فقد تسربت اخبارها الى الشرطة السرية التي اختلط افرادها بجموع العابرين، ولم ينفع تغيير مكان انطلاقها من سيد سلطان علي الى شارع الشيخ عمر في ان تستكمل نفسها في التئام ناجح، شاكر لمحني كما لمحته لكنه تجاهلني عمدا وفعلت انا الشيء عينه، و اثناء تنقله القلق من رصيف الى رصيف ، كانت الشرطة عند انطلاق الهتاف الاول بسقوط الشاه ونوري السعيد قد سدت مداخل ومخارج الطرق والازقة المتفرعة من شارع الشيخ عمر وفوجئت بشاكر ، والرصاص يلعلع بين الارجل ، ينطلق لينشر شعار المظاهرة صارخا برفيقه الممسك بالطرف الثاني من اللافتة أن يصمد والا يسقط الشعار، وفي نفس الوقت يهيب بالمتظاهرين الا يغادروا، ولست اعرف لحد اليوم ، بعد ان تفرقت الجموع كيف افلت شاكر من قبضة الشرطة ، وقد روي لي حين التقيته في اليوم الثاني في مقهى صيفي في الباب الشرقي كيف انه نجح في اختراق الحصار الى جامع عبد القادر الكيلاني ليختفي في احدى زواياه،، ولم يكن هذا المكان بالغريب عليه ، فقد كان معروفا انه، ايام تشرده، كان، كلما عاد متأخراً في الليل ووجد باب الميتم مغلقاً في وجهه، ينام في صحن الجامع المذكور وانه في الشتاءات الباردة كان ينام في التوابيت الفارغة المعدة للدفن في صباح اليوم التالي ، وتقول المرويات - وهو احيانا يكذبها ضاحكا واحيانا لا- انه كان يحرص عندما ينام في تابوت،على ان يسيقظ فجراً لئلا يتكرر ما حدث له مرة ، فقد حدث ان استيقظ مرة فزعا لحركة رجلين
جاءا لنقل التابوت الفارغ ،وحين قفز منه وهو شبه نائم، راكضا باتجاه باب الجامع ، كان الرجلان يركضان، وقد اخذهما الفزع والرعب الى الاتجاه المعاكس، ظناً ان الميت استيقظ !!!
ايام مضت بعد التظاهرة وانا ابحث واسال عن ما حل بشاكر، عرجت على مقهى في الباب الشرقي وكان شاكر قد اوصل لي عن طريق احد ابناء المحلة يخبرني فيه انه موجود في المقهى الفلاني وانه سيكون في انتظاري في الساعة كذا ، هناك دس لي، وكانت عيناه تجسان المحيط مطبوعا كنت حتى ذلك الحين اسمع عنه وكنت أظن ان الشوط الذي قطعته في الحركة الطلابية يؤهلني لأن اعتبر عضوا في الحزب الشيوعي حتى وان لم اكن حاملا البطاقة الحزبية.
كان المطبوع بورقه الاسمر الخشن وبعلامة المطرقة والمنجل يحمل اسم " القاعدة " ومن سطوره تحسست صرخة شقاء كنت اعرفها في نفسي ويعرفها، بالحس،كل عراقي خبر سياسة الافقار التي تمارسها الطبقة الحاكمة بحق شعبها المغدور، وبحق العمال الفلاحين على الاخص ،وكل الطبقات المسحوقة التي اعتبر نفسي جزءا منها ،وبالنسبة للشاب الباحث في حيرته وفي قصائده الاولى عن كينونة انسانية سحقتها الاقدام وعن طريقة تعيد لهذا العالم التعيس توازنه ، لم تكن القاعدة الا مدخلا لطريق ارحب ، ينقل رؤياي من لغة الاطراف الضيقة الى اممية ماركس الشاملة،الى نظريته الكبرى التي تقدم اكثر التفسيرات واقعية لكل الظواهر الاجتماعية ، وهي بالنسبة لي موجودة بطريقة لا يمكن تجنبها في الرواية والفلسفة والاجتماع وكل ما يمت الى الحداثة الجديدة بصلة، وازعم انها موجودة حتى شعري الذي يراه البعض وجوديا او سرياليا بقدر ما هو موجودة في طريقة عيشي اليومي.
لأبن طرفي شاكروف شاكروفسكي الذي دلني على هذا الطريق و لاحبتي الذين رافقتهم ورافقوني اثناء مسيرة طريق الشعب اشعل، عن بعد، في عيد الصحافة الشيوعية، شمعتي الصغيرة، مع الحب والاحترام العميق