مجتمع مدني

رسالة صريحة / ناظم محمد العبيدي

في اتفاق الناس وخروجهم الحاشد للمطالبة بحقوقهم المستلبة اشارة واضحة الى حدوث تغير حقيقي في مواقفهم ازاء ما يجري من شأن سياسي، ليس من الناحية المعرفية حسب، لأن الجميع كان يعرف مقدار الفساد والتقصير في اداء الخدمات الحكومية في عموم العراق، وان الكثير من السياسيين لا يمثل تلك الرمزية الدينية التي ينسب نفسه اليها لتحقيق مصالحه الشخصية والحزبية، التغير العميق جاء في تحول المعرفة الى تصرف جماعي للتعبير عن كل ما يحملونه من سخط وادانة لكل مظاهر التردي التي يرونها تتفاقم يوماً بعد يوم دون بارقة أمل وهنا تكمن أهمية ما حصل.
ان الدلالة الكبيرة لتحرك الشارع بهذه القوة تجيب على سؤال مضمر لطالما تردد لدى الكثير من المراقبين: لماذا لا يعبر الناس عن حاجاتهم الدنيوية كما يعبرون عن حاجتهم الروحية الدينية؟، فجاء هذا الجواب رسالة صريحة ومباشرة للقوى السياسية التي اعتادت على البقاء خارج دائرة المساءلة والمراقبة وهي تمارس أنانيتها ولا مسؤوليتها ازاء مواطنيها الذين انتخبوها وانتظروا منها تقديم مستلزمات الحياة الطبيعية دون جدوى طيلة السنوات الماضية، ثم جاءت تأكيدات المرجعية الدينية التي يحتمي بثقلها الديني هؤلاء الساسة لتؤيد مطالب الناس البديهية، فزادت من حراجة الموقف لبعض السياسيين الذين لم يكتفوا بالفساد وتحويل مقدرات العراق لمنافعهم الشخصية، بل تعدوا هذا الى التفريط بمصير العراق كوطن حين تركوا زمر الإرهاب تحتل ثلث مساحته بسبب الفشل الحكومي، واللامبالاة بكل ما له قيمة لدى العراقيين.(...)
اذا كانت مطالبات المتظاهرين قد بدأت بشأن الخدمات فإنها تناولت أيضاً ظاهرة الفساد، وهذا يعني بالضرورة اصلاح العملية السياسية ذاتها، فليس من المنطقي محاسبة رموز سياسية من دون أن يكون ذلك متضمناً اصلاح جهاز القضاء، الذي بدا مشلولاً وعاجزاً في السنوات الماضية عن محاسبة أي مسؤول حكومي او سياسي، وما دامت العملية السياسية قد قامت على هذه البنية فليس من السهل تحقيق العدالة داخل هكذا نظام قام على مبدأ المحاصصة، وتوزيع المناصب واموال الميزانية بين الكتل السياسية، وعند هذه النقطة تحديداً ستواجه مطالبات المتظاهرين صعوبات كبيرة، فليس ثمة كتلة سياسية أو حزب سيرضى بالكشف عما في ذمة أفراده من تجاوزات قانونية تضعه تحت طائلة القانون، ولهذا السبب تحديداً تم تحييد القضاء منذ سنوات فأصبح مهادناً يتغاضى عن الكثير من التجاوزات، كما جرى اضعاف مجلس النواب عن طريق تأثير قيادات الكتل السياسية، واصبح الوضع السياسي والحكومي يدور في حلقة مغلقة لا تسمح بالتقدم او تجاوز اشكاليات البلد المتراكمة سواء منها المتعلق بالملف الأمني أو الاقتصادي، وما نراه اليوم من أزمات هو في الحقيقة نتاج هذه الحالة التي خلقتها بنية النظام السياسي التي لا تسمح بأداء ناجح وفاعل في بناء الدولة وتطوير عملها الذي لا يمكن ان يجري بغير محاسبة ومراقبة حقيقية.(...)
ان المأزق الحقيقي الذي دخله العراق وادى الى خروج الناس يحتاج الى وقفة جدية من السياسيين، فلم تعد القضية تتعلق بمكون أو كتلة سياسية تريد الحصول على بعض المكاسب يتم ارضاء افراده بمنصب او امتياز معين، انها قضية شعب يطالب بالإصلاح الحقيقي ولا يمكن اسكاته عن طريق الترهيب أو اطلاق الوعود، فهل وعى سياسيونا خطورة هذه اللحظة التاريخية وما تحمله من نتائج على مستقبل العراق والعراقيين؟