مجتمع مدني

فنتازيا العنف تخلِّف حالات نفسية خطيرة تفتك بالعراقيين / أكرم الخاطر

دردشة قصيرة جدا جمعتني مع صديقة عربية مغتربة على موقع التواصل الاجتماعي، أو ما يعرف بـ "فيس بوك" عقب نشر "بوست" تحدثتُ فيه عن محنتي ومحنة الجنود العراقيين في ظل القصف الجوي والصاروخي الذي اكتظت به حرب ما يعرف بـ "عاصفة الصحراء"، ومن ثم ضياعهم في عواصف ورمال صحراء حفر الباطن، وما أعقبها من معاناة داخل أقفاص الأسر في المملكة العربية السعودية.
بدت "الصديقة" متألمة ومتعاطفة جدا معي بسبب ما حلَّ بي وبـ "رفاق السلاح"، وبالعراقيين جميعا من دمار وخراب وضياع، وقبل أن أشكرها على جمال مشاعرها وحسن موقفها، داهمتني بسؤال مثير، "شديد الغرابة"، بدا وكأنه "صاعقة"، قالت لي ببرود: هل عرضتَ نفسك على طبيب نفسي، مشفى، مصحة، شيء من هذا القبيل!؟
انزعجت على الفور!، وترددتُ كثيرا في الاجابة، شعرتُ بنوع من "الاساءة" أو "سوء الفهم" على أقل تقدير!. سألتها محتدّا: هل تعتقدين أنني مجنون مثلا!؟ أجابتني ببرود وبعفوية قهقهة اشارية مؤلفة من خمسة "هاءات"، ثم أضافت:" لا طبعا يا عزيزي....، بالعكس.....، ولكن.....، لا أعرف....، يبدو أننا.....، عموما....، آسفة.. باي"!
انسحبت "المْخَبْله" بسرعة، خرجت خجلة من غرفة الدردشة، فرددتُ على "بايها" أولا بـ "بايات ورحمة الله وبركاته"، ثم أقدمت على خطوة "رجولية اعْرُبيَّه مل أخو خيْتَه". "طگيتهه ببلوك امعدل"، طبقا لمبدأ "المعاملة بالمثل" الذي غالبا ما اشتهرت به دبلوماسية الدول العربية ودول العالم الثالث عموما!
مراجعة الطبيب النفسي "عيب"!
تقارير دولية كثيرة أشارت خلال السنوات الأخيرة الى أن نسبة غير قليلة من العراقيين يعانون من أمراض نفسية تختلف شدتها، وتتنوع بين الكآبة والصدمة وانفصام الشخصية والقلق والوسواس، وتشير الدكتورة مها سليمان، أستاذة الطب النفسي في جامعة بغداد بأسف الى أن ثقافة اللجوء الى مراكز وعيادات الطب النفسي غير راسخة في مجتمعنا بسبب البصمة التي ترتبط بالطب النفسي، وخجل الكثيرين من الإفصاح عن حاجتهم الى العون الطبي في هذا المجال. وبصورة عامة، يمتنع من يعانون اضطرابات نفسية ـ عقليّة في العراق، عن مراجعة الأطباء، لأنهم يرون في الأمر شيئاً مشيناً، ويفضّلون بقاء مرضهم سراً، خوفاً من النظرة الخاطئة السائدة اجتماعياً عن المرض النفسي ـ العقلي والاضطراب السلوكي.
ويرى العديد من العراقيين أن المرض النفسي يشكّل عيباً، وأن الهلوسة وانفصام الشخصية وغيرها لا تجعل المرء مريضاً بل "مُداناً" بفقدان العقل، وفقاً لتقاليد المجتمع وثقافته السائدة حاضراً.
أمام هذه الحقيقة تؤكد الدكتورة مها سليمان الحاجة الى توسيع خدمات الطب النفسي في العراق وتطويرها خصوصا وان تقرير معهد غالوب، أحد المعاهد المختصة بدراسات الرأي العام الذي صدر في حزيران2012 وضع العراقيين في صدارة الشعوب الأكثر إحباطا في العالم!
النساء أكثر عرضة للاكتئاب
أوضحت الدكتورة "سليمان" أن حالات الكآبة تهاجم النساء والرجال في مرحلة منتصف العمر، خصوصا النساء، إذ ترافق هذه المرحلة تغييراتُ هرمونية بسبب انقطاع الدورة الشهرية.
أما أكثر الاضطرابات النفسية شيوعاً في المجتمع العراقي، فتأتي من مشاعر الكآبة والقلق من المستقبل، وطغيان السلبية والسوداوية، فضلا عن تأثير أحداث العنف والموت التي مثلت صدمات للكثير من العراقيين، والأطفال منهم على وجه الخصوص.
وأوضحت مخاطر إهمال أعراض الكآبة وتأثيراتها الخطيرة على الجميع. حيث تعتبر الكآبة أو الاكتئاب من أهم أمراض العصر الحديث وتزداد انتشارا في فئات عمرية معينة. ومثل الأمراض الأخرى فللاكتئاب أعراض تختلف في شدّتها من شخص لآخر، كما أنه لا يشترط أن تظهر كلها في الوقت نفسه، علماً بأن هناك معايير معينة يرجع إليها الأطباء المختصون لتشخيص المرض.
وتشير الدكتورة مها الى عدد من الأعراض، التي تفصح عن درجات مختلفة من أعراض الكآبة منها: الإحساس بالإحباط والتشاؤم وفقدان الأمل، والفتور وفقدان الحيوية، والإجهاد والتفكير في الموت وأحياناً محاولة الانتحار، وظهور بعض الأعراض الجسدية المستمرة التي لا يبررها غالباً سبب عضوي واضح مثل الأرق والصداع والاضطرابات الهضمية وفقدان الشهية وآلام في أنحاء مختلفة في الجسم.
الحروب.. الحروب
ويعاني آلاف العراقيين من أمراض نفسية أغلبها ناتج عن الحروب وسنوات الاقتتال الطائفي ومشاهد العنف، وضلوع المرضى في أحداث ولّدت لديهم حالات يرفض كثيرون منهم الاعتراف بوجودها ويعزفون عن معالجتها بسبب ثقافة العيب، كما أن عدد الاطباء النفسيين المتوفرين يقل عن الحد الادنى المفروض.
وفي الوقت الذي تشير فيه الظواهر الميدانية إلى ارتفاع كبير في أنواع الأمراض النفسية بين شريحة واسعة من المواطنين العراقيين، فان المؤسسات الصحية والمجتمعية تقف عاجزة أمام استيعاب هذه الكم المضطرد من المرضى، ليس بسبب نقص المؤسسات العلاجية والأطباء النفسانيين فحسب، بل بسبب العزوف المجتمعي عن المعالجة، مما أدى إلى تفاقم الظاهرة الى الحد الذي أضحت فيه قضية رأي عام يتداولها الشارع العراقي.
ومع أن العراقيين يشتركون في الكثير من الأمراض مع الشعوب الأخرى إلا ان أمراضهم العقلية والنفسية ناجمة عن تأثيرات الحروب.
العنف.. العنف
وبحسب الطبيب النفسي الدكتور سليم البياتي فان نوبات الغضب السريعة والتشنج وردود الأفعال العنيفة تجاه الأحداث اليومية مثل الضرب واستخدام السلاح حتى في الخلافات البسيطة تشير الى حالات نفسية تحدث يوميا.
ويصف البياتي حالة احد مرضاه الذي يعاني من اكتئاب حاد، تحول فيما بعد الى سلوك عنفي حيث قادته حالته النفسية السيئة الى محاولة الانتحار، لكنه أنقذ في اللحظات الأخيرة. ويقول ان الأمراض النفسية تتركز في المدن والمناطق الحضرية لاسيما التي شهدت حروبا ونزاعات طائفية وأعمال مسلحة.
ثقافة الخجل والعيب
يقول البياتي ان ما يعيق العلاج في العراق هو ان الناس لا يحبذون الخوض في تاريخ مرضهم النفسي، بسبب ثقافة "الخجل والعيب" المترسّخة في الذهنية العراقية.
ويشير البياتي إلى قائمة طويلة لمرضى تضمنها حاسوبه الشخصي، يعانون من الوسواس القهري والذهان والبوليميا لكنهم يرفضون الاعتراف بحقيقة مرضهم ويعتبرونه حالة عابرة.
وتشير تقارير لوزارة الصحة العراقية عام 2010 الى ان حوالي الثلث من العراقيين يعانون من اضطرابات نفسية، وان عام 2009 شهد مراجعة 100 ألف مريض للمستشفيات والمراكز الخاصة.
رفض العلاج
لا يبدي الشاب "س. ك" اعترافا بما يعاني، كما يرفض المعالجة عند الطبيب على رغم ان أفرادا من عائلته وأصدقائه نصحوه بفعل ذلك بفعل نوبات من الهستيريا والغضب تنتابه الى حد السقوط على الأرض ومعاملة من حوله معاملة عنيفة.
وبدا ان حالة "س" النفسية تسوء منذ نجاته من القتل على يد عصابة مسلحة في بغداد اغتالت اغلب راكبي حافلة كان يستقلها هو أيضا عام 2005.
ويطلق المجتمع على بعض المرضى النفسيين اسم "مخبول " أو "سويج"، في دلالة على نظرة دونية لهم، وغالبا ما يهمشه المجتمع، و لا تعبأ له العائلة بعدما عجزت عن علاجه، ولعدم قدرتها على لجم تصرفاته.
ومازالت المصحات النفسية في أغلب مدن العراق غير فعالة، وتحتاج الى التوسع في أعمالها من الناحية المادية ومن ناحية سبل ووسائل العمل.
وجرى أول إحصاء علمي للأمراض النفسية في العراق في العام 2006، بالتعاون مع منظمة الصحة العالمية، حيث أشارت النتائج الى ان نسبة الأمراض النفسية في البلاد بلغت حوالي عشرين بالمائة، وهي نسبة طبيعية مقارنة مع باقي دول العالم على اعتبار ان نسبة الأمراض النفسية في أي بلد تبلغ من 10 الى 20بالمئة.
مراكز معزولة
ويقول الطبيب النفسي الدكتور سعيد صالح ان هذه المصحات فشلت في التكيف مع الحياة بسبب العادات الاجتماعية التي تنظر اليها على انها مراكز معزولة ومنبوذة تضم مجانين.
ويشير الباحث الاجتماعي احمد سعيد الى ان العراقيين لا يهتمون كثيرا بتشخيص حالات مرضاهم النفسيين، وغالبا ما يطلقون عليهم "مريض أعصاب" على رغم اختلاف حالاتهم.
ويشدد أغلب الأطباء النفسيين في العراق على أن هناك استهانة لدى المواطنين بالأعراض النفسية في حين ان اهتمامهم يتركز على الأمراض العضوية ويهرعون الى معالجتها.
وفي عيادة الدكتور سمير فاضل الجبوري المتخصص بالأمراض العصبية والنفسية، تلمح الكثير من الحالات المتدهورة لمرضى، بسبب التأخر في علاجها. و بحسب الجبوري فان بالإمكان تجنب هذه الأمراض التي بلغت حالاتها القصوى، لو انه تم علاجها مبكرا.
صدمة الانفجار
يشير الجبوري الى حالة مريض آخر، يعاني الخوف والاكتئاب الحاد نتيجة "صدمة" دون سابق انذار تسيطر على وظائف الدماغ.
وشهد الشاب المريض انفجار سيارة مفخخة في بغداد عام 2009، ولّدت حالة من الخوف تلازمه.
وبحسب سجلات مستشفى ابن رشد فان المستشفى استقبلت حوالي 100 مريض يوميا في عام 2010، فيما سجلت مستشفى الرشاد حوالي 30 مراجعة يوميا.
ولا تتوفر في العراق احصائيات دقيقة حول حجم الأمراض النفسية في البلاد، لكن دراسات تقييمية تشير الى أضرار نفسية بالغة تخلفها الحروب وسنوات الاقتتال الطائفي ومشاهد العنف.
ويعاني "م. ك" من بغداد من توتر عصبي وقلق مفرط منذ ان شاهد جثثاً بعد عملية إعدام جماعي قامت بها مجموعة مسلحة عام 2006، على طريق العراق – سوريا، حيث ظلت الجثث في العراء لعدة أسابيع.
ويقول "م" ان حالة من القلق الدائم والأحلام المزعجة تقض مضجعه إضافة إلى اليأس، فيما عدم الرغبة في النوم تنتابه منذ ذلك الحين.
ويعاني الكثير من أطفال العراق من حالات نفسية مثل الخوف بسبب مشاهد العنف في الواقع وفي التلفزيون، إضافة إلى مشاهدات ميدانية لجثث مشوهة في الشوارع.
وتشير تخمينات الى ان هناك نحو مائتي طبيب نفسي فقط في العراق لسكان يزيد تعدادهم على من 30 مليون شخص. ولا يحبذ أغلب طلاب العراق دراسة الطب النفسي ويفضلون بدلا منه الاختصاصات الطبية الأخرى.
ويقول الطبيب النفسي الدكتور ليث حميد: ان ذلك يعود الى ثقافة اجتماعية عراقية، فاغلب هؤلاء يرون ان التعامل مع "مجانين" أمر صعب وليس ذا قيمة مادية واجتماعية.
الحبوب المخدرة
ويضيف حميد: أغلب المرضى النفسيين في العراق يحبذون أسهل الطرق في المعالجة وهو تناول الحبوب المخدرة، مثل الكبسولات "آرتين" التي يفضلها كثيرون ويتناولونها من دون استشارة الطبيب.
كما يلجأ البعض منهم الى تناول الكحول، مما يزيد من تفاقم حالتهم النفسية من غير ان يعلموا بذلك.
تخلف.. تخلف
وفق احصائيات منظمتي أطباء بلا حدود، والصحة العالمية، فإن العراق أصبح موطناً للأمراض النفسية التي تتفاقم مع تصاعد الأحداث الأمنيّة والسياسية التي لا توجد لها حلول حتّى الآن، لكن أسباباً أخرى تجعل هذه الأمراض ماكثة في المجتمع العراقي، ومنها المجتمع نفسه. وتقول أطباء بلا حدود في احصائية عام 2006: إن 18,6 بالمئة من العراقيين يعانون من أمراض نفسيّة.
والمعروف أن "لدى المجتمع العراقي نظرة بأن من يعالج لدى طبيب نفسي فهو فاقد عقله"، ويستدرك "ما يجعل التخصص في الطب النفسي نوعاً من الترف، إذ لا يُقبل المرضى على عيادات الطب النفسي ما يجعل من هذه العيادات خاسرة من الناحية المادية".
وبالرغم من الأعداد المتزايدة للأمراض النفسية في العراق، إلا أنه لا يوجد سوى ثلاث مستشفيات لمعالجة الأمراض النفسية وهي "الرشاد" و"ابن رشد" في بغداد، ومستشفى "سوز" في السليمانية.
ولا شك أن هناك خللاً في المجتمع، إذ أن "بعض المرضى في المستشفيات لا يتسلمهم اهلهم بعد أن يتجاوزا النوبات المرضية بسبب نظرة المجتمع اليهم"، و"هؤلاء بالتالي يصبحون عبئاً على المستشفى لانهم يستخدمون اسرة يحتاجها الكثير من افراد المجتمع الآخرين".
ويقول باسم مؤيد، وهو طالب في المرحلة الثالثة في الطب، إن "بعض الاختصاصات الطبية كالامراض الجلدية أو الأشعة أو الأنف والأذن والحنجرة تحظى بشعبية أكبر بين الراغبين في التخصص من الطب النفسي, لما تضمنه من احتكاك أقل بالمرضى أولاً, والوفرة في تسهيلاتها مقارنة بالطب النفسي ثانياً, إضافة إلى الدخل المادي الذي توفّره".
وصمة سيئة
يقول الدكتور عامر شاوي: الطب النفسي كغيره من فروع الطب الأخرى كالجراحة والباطنية والجلدية له أساسياته ومناهجه وأدواته، لكن هذا الفرع يعاني من الضمور في الشرق بصورة عامة وفي العراق خاصة حتى ان المختصين به قليلون جدا.
ويرى "شاوي" أن الانحسار في هذا المجال الطبي المهم جدا يمكن أن يعزى إلى الأسباب التالية من وجهة نظره كطبيب وكفرد في المجتمع العراقي، منها: وجود من يحاول أن يلعب دور الطبيب النفساني بصورة غير مشروعة وغير صحيحة. واغلب هؤلاء يعتمدون في عملهم على مبدأ الخرافة الهشة ويدعون إتباعهم للعلم الروحاني متمسكين بعبارة لا نعلم مصدرها وهي: "عدم علمك بالشيء لا يعني عدم وجوده".
ولا يخفى على كل عاقل ان التمسك بهذه القاعدة يؤدي إلى الاعتماد على المجهول في الحياة العملية وهذا منطق غير صحيح يتمثل بالتعلق بأشياء مقدسة عند بعض الناس أو اللجوء إلى من يدعون العلم بالسحر والشعوذة وما شاكل ذلك من أساليب باطلة يرفضها الدين والعلم ويرفضها العقل السليم والفطرة النقية. وقد انتشرت هذه الظاهرة في العراق كثيرا، خاصة في ظل غياب سلطة الدولة. فقد رأيت الكثير من الناس وهم يأخذون مرضاهم الى هؤلاء المشعوذين. وهؤلاء المرضى مصابون بأمراض نفسية اثبت العلم الحديث أسبابها واكتشف طرق علاجها.
كما أن هناك سببا آخر هو ان مجتمعنا العراقي الشرقي، يعد زيارة المريض للطبيب النفساني بحد ذاتها وصمة سيئة على المريض، قد تؤثر على سمعته في المجتمع. وقد يترتب على ذلك تضييع فرصته في العمل أو فرصته في الزواج. وقد قال لي العديد من الأطباء النفسيين: إنهم يتحاشون مقابلة مرضاهم خارج المستشفى أو العيادة حتى لا يعرضوا هؤلاء المرضى إلى نظرة المجتمع القاسية.
وثمة سبب آخر اقل أهمية يأتي من طرف الطبيب النفسي نفسه، حيث استمعت إلى العديد من الذين راجعوا الطبيب النفسي وبعدها اقسموا أن لا يعودوا الى تلك التجربة وعندما سألتهم عن سبب ذلك قالوا إن الطبيب لا يعطينا من وقته إلا دقائق معدودة.
هذه الحالة سببها ان الطبيب في العراق حاله حال بقية الموظفين، كالمعلمين والمهندسين، لحقه الضرر المادي وغبن الحقوق من قبل النظام الحالي وما سبقه من الأنظمة، مما أدى إلى أن يضع الطبيب ولو في جزء من تفكيره المردود المادي لعمله وهو حق قد يكون مشروعاً. فلو استقبل الطبيب النفسي مرضاه حسب المعايير العلمية الصحيحة، فقد لا يستطيع أن يعالج إلا عدداً قليلاً من المرضى في اليوم، وهذا صعب على الطبيب من جهة وعلى المريض من جهة أخرى.
إن هذا الكلام موجه لكل ذوي العلاقة ومن يعنيهم الأمر لفهم معنى الطب النفسي والاهتمام بهذا المجال بالشكل الصحيح ، حيث إن الشعب العراقي قد مر بظروف صعبة جدا انعكست بصورة كبيرة على الفرد العراقي .
الأطفال ضحايا العنف
اظهرت دراستان عراقيتان مولت احداهما منظمة الصحة العالمية ان نسبة الاطفال الذين تعرضوا لحوادث شنيعة وشاهدوا القتل وشهدوا الانفجارات والارهاب بلغت 58 بالمئة، بين عامي 2006 و 2007 ، كما أن نسبة اصابتهم بالصدمات النفسية تراوحت مابين 14-17 بالمئة فأصبحوا معاقين نفسيا.
ويرى الدكتور علي العبيدي الطبيب النفسي المتخصص في مستشفى اليرموك والذي اشرف على الدراسة الاولى، ان تلك الاعاقات النفسية ستنعكس سلبا على سلوكياتهم وانتاجيتهم في المستقبل .
ولا يعد الخوف هو السبب الوحيد لتعرض الاطفال الى تلك الصدمات النفسية بل هي مخاوف افرزتها الظروف الامنية الخطيرة التي مر بها البلد خلال السنوات الاخيرة. فالطفل "م"، 12 عاما دخل في حالة ذهان حاد منذ ان شاهد فيلما على الهاتف النقال يصور حادثة مقتل صديقه ووالدته واحتراقهما.
اما الطفل "س" فما زال يخشى النوم او التنقل وحده بين حجرة واخرى حتى خلال النهار، كما يحلم برؤوس مقطوعة ويهب من نومه مفزوعا منذ ان شاهد جثثا مرمية في الطريق الى مدرسته خلال احداث العنف الطائفي. ثم سمع عن حادثة قتل بعض من افراد الحرس الوطني وتعليق رؤوسهم على اعمدة من قبل اعضاء تنظيم القاعدة في منطقة البوعلوان قرب ناحية الكرمة التابعة لقضاء الفلوجة .
ولا يعمد جميع الاهالي الى مراجعة اطباء النفس لدى اصابة اولادهم بأعراض نفسية –كما يشير العبيدي - بل يلجأ اغلبهم الى رجال الدين او المشعوذين او الاطباء المتخصصين في الامراض العضوية، طالما ان بعض الامراض التي تدعى نفسية – جسمية تصيب المريض بأعراض عضوية فيشعر بآلام في المعدة او الرأس او المفاصل كما تنتابه حالات امساك او رعشة ما يدعو اهله الى اللجوء الى الطب العضوي في الوقت الذي يكون فيه في امس الحاجة الى العلاج النفسي.
واذا كانت مراجعة الطبيب النفسي مسألة تعتمد قبل كل شيء على وعي الأهل بأهمية ذلك، وتتوقف على مدى مستواهم الثقافي والاجتماعي، فان هناك وسيلة اخرى اكثر جدوى تعمل وزارة الصحة على تطبيقها لتدارك الاصابة بالامراض النفسية لدى الاطفال، عبر اقامة دورات تثقيفية وتدريبية للمعلمين والمدرسين لرصد الطلبة الذين يتعرضون لآثار نفسية، والمرشحين بالتالي للاصابة بامراض نفسية. وتسمى هذه المرحلة "الاكتشاف المبكر للمرض" ليجري علاجه بشكل فوري بعد احالة الطالب المصاب الى تلك المراكز النفسية، او التعاون مع اسرته لاصطحاب الطفل الى عيادة طبيب نفسي. مؤكدا على اهمية دور المدرسة والاسرة في انقاذ الطفل مما ينتظره من مصير لا بد وان يؤثر على دراسته وعلاقته بالمجتمع في ما بعد.
وتشكو احدى الامهات اصابة ابنها ذي الثماني سنوات بالسلس البولي بعد ان كان يتمتع بالصحة الجيدة، وانها لجأت الى اكثر من طبيب متخصص بالمجاري البولية دون ان يتمكنوا من علاج حالته، التي بلغت حدا خطيرا حين بات يفقد السيطرة على نفسه في المدرسة، ما عرضه للإحراج بين زملائه ودفعه الى التهرب من المدرسة وملازمة المنزل، والبكاء باستمرار حين يسخر منه اشقاؤه، ولولا نصيحة معلمته لامه، التي نبهتها الى ان حالة ابنها نفسية وليست عضوية لما راجعت طبيبا نفسيا لتكتشف ان ابنها شهد مصادفة حادثة مقتل جارهم الضابط على ايدي مسلحين بأسلحة كاتمة للصوت، وانه خشي البوح بذلك لأهله خوفا من تهديد المسلحين له بقتل والده إن هو وشى بهم وهو ما انعكس سلبا على حالته النفسية فأدى الكتمان والهلع الذي عاشه الى التأثير على وظائف جسمه وبالتالي اصابته بتلك الحالة المحرجة. وتشعر الام بالامتنان للمعلمة، اذ ادى بوح ابنها للطبيب بما رآه الى التخلص من عبء الحادثة التي اثقلت عليه كثيرا وسيتم شفاؤه منها كما وعدها الطبيب بعد عدة جلسات شعر فيها الطفل بالأمان ويستعيد ثقته بنفسه وتماسكه النفسي.ويمكن اعتبار شريحة الايتام الاكثر تأثرا بالضغوط النفسية، نظرا الى ما يعانيه اغلبهم من حرمان وعوز مادي، فضلا عما واجهه بعضهم من قتل لآبائهم امام اعينهم، على ايدي العصابات المسلحة او مقتلهم في احداث التفجيرات امام انظارهم.
وتنتاب هؤلاء الايتام نوبات خوف وقلق واكتئاب قد تدفعهم احيانا الى التمرد على واقعهم وترك المدارس بعد تراجع مستواهم الدراسي. واذا ما علمنا ان عدد الايتام في العراق يبلغ حوالي 5000 يتيم حسب احصائيات وزارة حقوق الانسان فان تعرض بعض منهم الى خطر الاصابة بالأمراض النفسية سينتج جيلا يحتاج الى المساعدة بدلا من تقديمه العون والدعم الى مجتمعه.