مجتمع مدني

في الذكرى 54 لردة 8 شباط الدموية تظاهرات الكوت الشعبية ضد البعث المجرم / د. شفيق مهدي

قبل نيف من السنوات كنت جالسا في (جريدة الصباح) العزيزة، مع الصديق الشاعر (كاظم غيلان). كان يتصفح العدد الجديد من الجريدة، بشيء من العصبية والغضب، والالم الدفين في الوقت ذاته، وهو يتمتم بصوت مسموع:
- مو معقولة ! أهكذا تمر جريمة (8) شباط من غير أن ينتبه اليها الكتاب، وهم أكثر من عانى منها ؟ لماذا تناسوا ما عاناه الشعب العراقي ؟ حسافة !
ومع اقتراب الذكرى الملطخة بالدماء الزكية، تذكرت ما قاله الصديق العزيز(كاظم).. أي والله ! حسافة وألف حسافة، أن تمر ذكرى العار كبيرة الكبائر هذه في تاريخ الشعب العراقي، مرّ الكرام، فاستجمعت ذاكرتي. ولكن هل هي بحاجة الى استجماع، أمام ما اقترفته هذه الخطيئة الكبرى بحق (الكيتاويين) على نحو خاص، والعراقيين على نحو عام ؟
لقد عايشت وعاصرت الكثير من الاحداث القمعية والاجراءات الدموية والتعسفية التي اقترفتها هذه (العروس) الآثمة بحق العراقيين أجمعين.
(عروس) أية ثورة هذه يا صدام ؟
انها من غير شك، عروس الرذيلة والخطيئة والسحت الحرام، وخسران الميزان والمتعاون في خدمة الشيطان !
انها عروس الرجس والفاحشة وعبادة النفس ؟ عروس كل ما هو بذيء ذكر في القاموس!
كان يوم الردة السوداء، 8 شباط 1963 يوم جمعة. كنت في بغداد وانطلقت ضحىً الى الكوت من مرآب الأمين. سمعت اخبار الانقلاب المجرم وأنا في السيارة. عند الظهيرة، كنت في بيتنا الواقع في محلة (المشروع) في الشارع المجاور لـ (عكد الذهب). بعد سويعة من الزمن سمعت أصواتا عالية، غاضبة تهتف هتافات لم أستطع أن اتبينها جيدا. فخرجت أبتغيها؛الى مصدر الاصوات، كانت تظاهرة كبيرة؛نهايتها عند مقهى (السيد هاشم) أو (عكد الذهب)، وبدايتها وصلت الى(بيت المتصرف) مظاهرة طولها نحو كيلومتر.
كانت بحق تظاهرة شعبية غاضبة عارمة، ضمت صفوفها مكونات الكوت البشرية والسياسية والمذهبية والعرقية المختلفة التي يجمعها حب العراق وزعيمه الفذ (عبد الكريم قاسم).
كانت الحناجر تصدح مدوية، من ذلك :
عاش الزعيم عبد الكريم
شعب العراق شعب عظيم
فضلا عن هتافات أُخر، تندد بالانقلاب البعثي المجرم، وتدعو الى محاربته. ولم يصدق أحد، بعد ذلك أن الزعيم العظيم (عبد الكريم قاسم) قد استشهد على أيدي البعث القذرة، الملطخة بدماء الابرياء والوطنيين المخلصين الشرفاء، والمناضلين والمجاهدين النبلاء والانقياء.. نعم.. لم يصدقوا أن الزعيم قد استشهد، بل رفعه تعالى الى القمر، ومن ينظر الى القمر سوف يرى صورة الزعيم.
خرج في التظاهرة اناس كثيرون، من مختلف المذاهب والمشارب؛انهم شيوعيون واسلاميون ومثقفون وسياسيون ورياضيون وحمالون وحدادون وبقالون وخمارون، وعلمانيون وغيرهم.
أذكر من اولئك المتظاهرين أستاذي الجليل وشيخي الفاضل (زهير رسام) الذي طورد بعدها مطاردة عنيفة، فاضطر الى الاختباء في بيت المحامي الفاضل الاستاذ (تقي الوزان) فأكرمه غاية الاكرام، فقد كان الاستاذ (زهير) مربيا فاضلا ومدرسا قديرا، فاحبه طلابه وأهلوهم حبا زائدا.
ولكن قبض عليه بعد ذلك، في موقف بطولي، فقد طارده مسؤول الامن في الكوت (أبو رعد) الذي كان يقطر سماً، وحاصره قرب سدة الكوت ورماه برصاصة، وبشجاعة نادرة اندفع نحوه الاستاذ (زهير) وقبض عليه وأراد ان يرميه في النهر، لولا ان سارع ازلامه الى تخليصه من يديه، فسجن ثم انتقل الى سجن العمارة، وبقينا نتتبع اخباره، انا و(عبد الحسين الحركاني) وغيرنا، وهذا ما جعل رجال الامن يستدعوننا ويرسلون في طلب اهالينا. ولولا اننا كنا صغار السن، لكانت عواقبنا وخيمة جدا.
ومن المشاركين في التظاهرة كذلك لاعب كرة القدم الشهير (خضير شريف) المدافع الذي اذهل فريق (سبارتاك) الجيكي، الذي لعب مباراة امام فريق الكوت، في أوائل ستينيات القرن الماضي، وصنع اهدافا محققة وبعد التظاهرة منع من الحصول على اية وظيفة.
ومن المتظاهرين ايضا لاعبا كرة القدم المعروفان (قاسم) و(سعدي شمة)، وهما أخوا العواد العالمي (نصير شمة) والعديد من ابناء (بازل) ومنهم (عدنان)، فضلا عن الاستاذ (ستار مزبان) والاستاذ (علي الكظماوي) و(السيد هاشم) صاحب المقهى و(فرج) و(عبد كور) وهما بقالان، والاستاذ الفاضل (كاظم الوتار) واخوانه، وغيرهم.
وكان هناك حاضرون من (نوع آخر)؛من الخونة الذين كانوا يلتقطون الصور للمتظاهرين، أو من الذين يدونون الاسماء.
لم تتفرق التظاهرة الا مساء، بقوة السلاح. كانت تظاهرة الكوت هذه، شرفا كبيرا للكوت، وصفحة رائعة من صفحات النضال والجهاد ضد تلك العروس الخاطئة الفاجرة.
لقد عانى (الكيتاويون) بعد ذلك كثيرا بسبب مشاركتهم في التظاهرة، فعند التقديم الى اية وظيفة في الكوت أو في بغداد، يطرح هذا السؤال :- ((هل شارك المتقدم في المظاهرة أم لم يشارك ؟)). والمشارك يحرم، فقد حرم (خضير شريف) من التقديم حتى الى كلية التربية الرياضية، وهو له كل الحق في ذلك، لأنه رياضي مرموق، كما حرم من اللعب في منتخب العراق. وبقدرة قادر، حرم (سعدي شمة) من مواصلة عمله في (الشرطة الممتازة) بعد أن قبل فيها، ثم اكتشف فيما بعد، انه كان من المشاركين ! وحرم (حمودي بهنام) من دخول (دورة نائب ضابط موس) (نائب ضابط تلميذ حربي)، لأن أخاه شارك في التظاهرة.
يكفي تلك التظاهرة فخرا انها ظلت تقلق المسؤولين وتؤرقهم سنوات طويلات، ويكفي كرامة وخلودا اننا نكتبها الآن بسطور ساطعة من اشعة الشمس، ويكفي "عروسهم" خزيا انها تذكر بكل معاني الخيانة والدناءة والدموية، وآخر خزي شاهدنا لـ " قائد عروس الثورات " هو اختباؤه في جحر يستحي أن يختبيء فيه فأر مذعور !