مجتمع مدني

سلاح خطير يقوّض الكثير ويخلف الضحايا .. العنف.. حاضنة للأذى والعدوانية والجرائم

أكرم الخاطر
داخل سيارة أجرة نوع "كيا" حصل شجار بين السائق وأحد الراكبين بسبب ورقة نقدية فئة مائتين وخمسين دينارا. ادعى السائق أنها تالفة، بينما أصر الراكب على أنها عملة عراقية سليمة. طبعا حالات كهذه تبدو شائعة، والشجارات التي تقع بسببها غدت شائعة أيضا، لكن الغريب جدا أن السائق هدد الراكب "الأفندي" أثناء شجاره قائلا:"أفجر بيتك الليلة والله"! تهديد خطير وجديد على الشجارات العراقية، وينم عن عنف جديد في موضوعة "العركة العراقية"، وقد لا يكون غريبا اذا ما تذكرنا مظاهر وطقوس الحروب الكثيرة التي نعيشها منذ عقود. عنف اخترق الطفولة، وعنف اخترق تلامذة المدارس وطلبة الجامعات، وعنف يتجلى في النزاعات والشجارات بين الأقارب والجيران، وعنف تخصصت بنشره بعض الفضائيات أيضا.
مظاهر العنف كثيرة، ترافقنا في المناسبات المفرحة والحزينة. لا نفرح الا بإطلاق العيارات النارية، ولا نحزن الا "بالهوسات والعراضه" المرافقة لإطلاق الرصاص من مختلف البنادق والمسدسات، حتى كلمات بعض الأغاني العاطفية والرياضية باتت عنفية وبعيدة عن الشجن العراقي الجميل والروح الرياضية، كما لا ننسى موجة الارهاب البغيضة وضحاياها على مدى أكثر من عقد.
نتائج كل ذلك هي المزيد من الضحايا في مشرحة الطب العدلي، والكثير من الجرحى في ردهة الاستقبال، وجحافل من الأيتام والأرامل، وثأر وثأر مقابل، وحزن وندم.
مرة، عاتب "أفندي" شخصا أساء إليه، والعتب "لحد الآن.. مستر جون".. ولكن بعد سطرين من الحوار، انفعل "مثقفنا" وقال:"أسويهه وياك عشاير والله، هسه اتصال بالموبايل أخليهم يسحلوك سحل، ويضيعون ذِكْرَكْ".. "ملّه عليوي"!
العلاج بالتسامح
يقول رشيد الزيدي، مشرف تربوي:"يتألم أحدنا كثيراً حينما يرى مظهرا من مظاهر العنف، ويكفي المرء أن يتسمّر دقائق معدودة أمام شاشات التلفاز ليُدرك حجم العنف الذي تحتويه الأفلام والمسلسلات التي تُعرض على القنوات التلفزيونية، بل وحجم العنف في مشاهد القتل والتدمير التي تُعرض على الأخبار والتي تقع في العراق وفي أماكن مختلفة من العالم. وتُشير الدراسات والإحصائيات الاجتماعية إلى انتشار جرائم القتل في بلدنا وبلدان عديدة أخرى وبشكل متزايد. ولا شك في أن العنف هو حالة سلبية وتعبير منحرف عن الشعور الإنساني، فالإنسان قد يغضب، وهذا الشعور قد لا يخلو منه إنسان، ولكن المشكلة حينما يتحوّل هذا الغضب إلى تعبير عنيف وطابع إجرامي يؤدّي إلى إيذاء الناس أو الاستهانة بأرواحهم. وأرى أن من أسباب العنف التنشئة الخاطئة للأجيال؛ فالإنسان يولد على فطرة تنبذ القتل والإيذاء للبشر، ولكن عندما تتمّ تربية الإنسان صغيراً على مفاهيم خاطئة وعادات وأعراف مغلوطة، فان هذا يؤدي إلى بلورة شخصية الإنسان بشكل خاطئ، بحيث يتبنّى أفكاراً تخالف فطرته وتعاليم دينه وأخلاقه، ومثال على ذلك عادات الثأر المنتشرة في العراق وعدد من المجتمعات العربية والإسلامية، والتي تلحق العار بكلّ من يتخلّى عن الانتقام والثأر لقاتل قريبه، أو ظاهرة قتل النساء بداعي الشرف. كما أن مشاهد العنف التي تعرضها القنوات التلفزيونية تسبب تعلق الإنسان بتلك المشاهد واستساغتها؛ بحيث يراها أمراً اعتيادياً مألوفاً، وقد يمارسها في لحظة من اللحظات ضد أهله أو مع مجتمعه. وهناك عوامل أخرى حاضنة ومنتجة للعنف مثل الفقر والجهل والبطالة التي تنتشر في كثير من المجتمعات ومنها العراق؛ فالمجتمعات التي ينتشر فيها الفقر والحاجة ينتشر فيها العنف الذي تسوغه بعض النفوس الضعيفة من أجل سد حاجات الإنسان، ويتزايد الأمر في ظلّ وجود سياسات حكومية خاطئة لا تأبه للإنسان الفقير ولا تعمل على تأمين احتياجاته وتعمّق الطبقية في المجتمع، وأرى أن علاج ظاهرة العنف أو الحد منه هو في تبني منظومةً أخلاقيّة وتشريعية تحكم المجتمع وتضبط علاقات الناس مع بعضهم البعض؛ بحيث يجرم العنف ويحاسب مرتكبوه، كما يتمّ إعداد رسائل توجيهية وإرشادية تبثّ من خلال وسائل الإعلام المختلفة تحثّ على الرفق واللين والتسامح والعفو بعيداً عن العنف والترويع والإيذاء".
تقليد المجرمين وقوتهم
لغويا يعني العنف: الشدة والمشقة، وهو ضد الرفق، وكل ما في الرفق من الخير في العنف من الشر مثله. التعنيف: التوبيخ والتقريع واللوم. والعنف هو كل تصرفٍ يؤدي إلى إلحاق الأذى بالآخرين، وقد يكون هذا الأذى جسميًّا، أو نفسيًّا؛ كالسخريَّة والاستهزاء، وفرض الآراء بالقوة، وإسماع الكلمات البذيئة، وجميعها أشكال مختلفة لظاهرة العنف. وهو جزء من العدوان، وشكل من أشكاله، سواء كان ذلك العدوان على الأفراد، أم على الممتلكات، أم على المجتمع، لكن العنف يظهر جليًّا بأنه سلوك عدواني مستمر، وله طابع مادي خالص، في حين أن العدوان يشتمل على المظاهر المادية والمعنوية معًا.
يقول سالم مخلص، طالب دراسات عليا:"شهدت البشرية أحداثًا كثيرةً تميزت بالعنف؛ فالعنف سمة من سمات الطبيعة البشرية، وعلى مدى التاريخ نجد شواهد تدل على لجوء الإنسان إلى العنف استجابة لانفعالاته من الغضب، وتعتبر محاولة التسلط من أجل السيطرة على الآخرين هي المصدر الأساسي للعنف في تاريخ البشرية، سواء تسلط الفرد على الآخر، أو تسلط طبقةٍ على مجتمع، وكذلك تسلط مجتمعٍ على مجتمعٍ آخر؛ ويمكن أن نوجز أسباب انتشار ظاهرة العنف الى عوامل ذاتية، أي التي يكون مصدرها في الفرد ذاته، ومن أهمها الشعور المتزايد بالإحباط، وضعف الثقة بالنفس، والاضطرابات الانفعالية والنفسية، وضعف الاستجابة للمعايير الاجتماعية، وعدم القدرة على مواجهة المشكلات التي يعاني منها الفرد، والشعور بالفشل والحرمان من العطف، وعدم القدرة على تحكم الفرد في دوافعه العدوانية، والإدمان على المخدِّرات؛ لأن المدمنَ يعاني من اضطرابات نفسية تدفعه إلى العنف وكذلك التفكك الأسري، وفشل بعض المدارس في أداء وظائفها كمؤسسة اجتماعية تربوية لعوامل متعددة، سواء ما يتعلق بالطالب، ومنها ما يتعلق بزملائه، ومنها ما يتعلق بالمدرس، ومنها ما يتعلق بالمواد الدراسية وموضوعاتها، أو ما يتعلق بالنظام. فالمدرسة قد تكون سببًا من أسباب التمرد والعصيان من الطلاب".
وأضاف:"هناك سبب آخر هو مكان السكن فالحي الذي تتوافر فيه قيم ومؤثرات لتغذية هذه القيم وإشباع حاجات ورغبات الفرد يعتبر حيًّا سويًّا، ويهيئ للفرد جوًّا يكسبه الشعور باحترام النظام والقانون، والبعد عن السلوكيات المنحرفة، ومن بينها السلوك العدواني، وقد تتوفر في الحي أسباب عدم التنظيم الاجتماعي، وتشجيع السلوك العدواني عن طريق احترام المجرمين، مما يجعل هذا الحي بيئة فاسدة تؤدي إلى زرع العنف في الطفل منذ نشأته الأولى ويمكن أن نوجز صفات الحي الذي يؤدي إلى غرس العنف في الأطفال فيما يلي: الحي المزدحم بالسكان الفقراء، وانتشار الرذيلة أو الذي توجد فيه فوارق طبقية، والحي النائي الذي يكون ملجأ لاختفاء المجرمين والخارجين عن القانون. كل ذلك يؤدي إلى تقوية تأثير العنف على تشكيل سلوك الفرد، وقد وجد بعض الباحثين أن جماعة الرفاق قد تكون البديل للأسرة في بعض الأحيان، خصوصًا للمنحرفين والمجرمين، وقد أشارت معظم الدراسات والأبحاث التي تناولت موضوع الرفاق وعلاقتهم بالانحراف إلى أن معظم المنحرفين والمقبوض عليهم في السجون والموجودين في المؤسسات الإصلاحية كانوا على علاقة بأصدقاء منحرفين يشجعون على النزعة إلى السيطرة على الآخرين والهرب المتكرر من المدرسة. وعلينا أن لا ننسى دور وسائل الإعلام، فلوسائل الإعلام دور بارز في تنامي ظاهرة العنف لدى المراهقين؛ فالبرامج الإعلامية، وخصوصًا التلفزيونية، تقدم لهم عينة من التصرفات الخاطئة، مثل العنف الذي يشاهده المراهق لمجرد التسلية والإثارة، قد ينقلب في نهاية التسلية والإثارة إلى واقع مؤلم بفعل التأثير السلبي القوي والفعال لوسائل الإعلام لتجسيد العنف بأنماطه السلوكية المختلفة، ولا يخفى علينا أن المراهقين لديهم القدرة على التقليد والمحاكاة لما يشاهدونه في التلفزيون، كما أنهم ينجذبون إلى مشاهد العنف، ويجدون فيها المتعة؛ لذا نجد أن معظم حديثهم يدور حول البرامج التلفزيونية العنيفة؛ ويمكن أن نوجز تأثير وسائل الإعلام على الأطفال والمراهقين في الأمور التالية: مشاهدة العنف تؤدي إلى تقوية نزعة العنف لدى الأطفال، وحرصهم على إخراجها؛ وقد تبالغ وسائل الإعلام في ما تنشره من إثارات حول أخبار العنف، الأمر الذي يظهر العنف كسلوك عادي مقبول، كما قد تصور وسائل الإعلام المجرمين كأنهم يقومون بأعمال بطولية خارقة، وهذا يشجع الأطفال على اعتبار المجرمين قدوة لهم في حياتهم، وهناك الكثير من الكتب والمجلات وقصص المغامرات تعتبر وسائل إلى الانحرافات السلوكية والعدوانية، كما أن المشاهدة المستمرة للعنف في وسائل الإعلام تؤدي على المدى الطويل إلى انعدام الإحساس بالخطر، وإلى قبول العنف كوسيلة استجابية لمواجهة بعض الصراعات".
العنف الأسري
بحسب تحسين محمد، مدرس، فان تعريف ظاهرة الإيذاء العنيف للطفل داخل الأسرة بشكل عام هو أي اتصال قسري أو حيلي أو متلاعب مع طفل، من خلال شخص أكبر منه سناً بغرض تحقق الإشباع والرغبات للشخص الأكبر منه سناً. كما يعرف بأنه الاستغلال الفعلي أو المحتمل للطفل أو المراهق، وفي الأغلب يكون الإيذاء صادرا من اقرب الأشخاص إلى الطفل والذي في العادة يراهم كثيرا.
وقد يكون هناك عنف داخل الأسرة من ضرب وشتم وتحقير، سواء أكان للطفل أو الزوجة، مما يؤثر سلباً على أفراد الأسرة الذين يتولد عندهم مثل هذا العنف، وقد يبحث أحد أفرادها عن مكان خارج البيت لينفس فيه عما يجول في خاطره وفكره، لذا يجب على الوالدين اجتناب أفعال العنف أمام أطفالهم.
العنف في المدارس
هل الضرب وسيلة فعالة لتأديب التلميذ؟ وهل استعماله داخل المدرسة يساعد على تربية الأطفال وفرض هيبة المدرس؟ أم أنه أحد أشكال العنف الموجه ضد الأطفال في المدرسة وخارجها؟ وهل تحتاج المدارس العراقية إلى إعادة نظر في أسلوب تعاملها مع التلاميذ؟ كيف يمكن حماية ابنائنا؟ وما هي مسؤولية الدولة والمنظمات الاجتماعية والحقوقية ودور الاعلام في الحد من ظاهرة العنف المدرسي في العراق؟
لقد شكل العنف في المدارس مشكلة اجتماعية وحقوقية خطيرة في كثير من البلدان، ومنها العراق، لا سيما في البلدان المتدنية في مستوى التعليم والثقافة كما هو الحال مع العراق، نظرا لما تعرض له هذا البلد من حروب وأزمات سياسية وأمنية واقتصادية وثقافية، ساهمت بتراجع البلد في مجال التربية والتعليم وثقافة المجتمع، فضلا عن تحول النظام السياسي في البلد "بطريقة دراماتيكية" من نظام دكتاتوري صارم الى نظام تعددي.
ولعل نظام التعليم في العراق تعرض الى الكثير من المعضلات أبرزها العنف ضد التلاميذ، فلا تزال ظاهرة العنف المدرسي حاضرة في بعض المدارس من خلال الممارسات العنيفة التي تصل الى الضرب والعنف الشديد بحق أطفال صغار.
ويقول أحد الحقوقيين :"ان السبب الأساس لمثل هذه الممارسات العنيفة، يعود إلى افتقار بعض المعلمين الى الثقافة التربوية التي تؤهلهم لفهم حقوق الانسان وأهميتها، فضلا عن حرمة الانسان وكرامته الانسانية، فهذا الامر لا يتعلق فقط بالتربية العائلية او المجتمعية، وانما هو جانب مهني يجب أن يتدرب عليه المعلم والمدرس، وينبغي أن يدخل دورات متخصصة، تؤهله ثقافيا كي يكون معلما مثقفا يغرس ثقافة الحقوق لدى تلاميذه وليس العكس".
وعن الكيفية التي يمكن ان يخرج بها المجتمع العراقي من دوامة العنف المدرسي أضاف: "عندما يتم بناء دولة مؤسسات قوية ويتم احترام القانون من لدن الجميع، عند ذاك سوف تتوافر بوادر أمل في امكانية القضاء على العنف، ولكن يحتاج الامر الى جملة من الاجراءات المتزامنة في الانجاز، بمعنى على الحكومة والمجتمع ومؤسسات التعليم والتربية والمنظمات المتنوعة ان تقوم بواجبها التعليمي التربوي الاخلاقي التثقيفي، لنبذ العنف والتطرف".
يقول أحد المدرسين: "ان التخلص من آفة العنف المدرسي تتطلب تعاونا مشتركا بين الآباء والمعلمين، من خلال التعامل المدروس والسليم مع الوضع النفسي للطلبة الصغار، والعمل على توفير الاجواء الدراسية الصحيحة لهم، كذلك هناك متطلبات مادية ينبغي توفيرها لهم، وهذه مسؤولية الآباء بالدرجة الاولى، فلا يجوز محاسبة الابناء على تقصير أو خطأ معين، في حين لا يتنبّه الاباء الى اخطائهم. أما المعلمون فمطلوب منهم التمسك بالمنهج التربوي الخالي من العنف، واللجوء الى أساليب معاصرة تتفهم أوضاع الطلاب، واحتياجاتهم في الجانبين المادي والنفسي، وفي هذه الحالة يمكن ان يثمر التعاون بين الآباء والمعلمين، من خلال نبذ العنف بصورة تامة، مع توفير الصفوف المدرسية الجيدة والمناهج الجديدة، عند ذاك سوف يتحقق حلم التعليم السليم، وتنتهي ظاهرة العنف المدرسي التي باتت من الظواهر المتخلفة والمدمرة في الوقت نفسه".
كما يرى خبراء آخرون أن نشر ثقافة التسامح ونبذ العنف في المجتمع والتلاميذ في غاية الاهمية، وليكن شعارنا التعلم لحقوق الإنسان وليس تعليم حقوق الإنسان، الى جانب عمل ورشات ولقاءات للأمهات والآباء لبيان أساليب ووسائل التنشئة السليمة التي تركز على منح الطفل مساحة من حرية التفكير وإبداء الرأي والتركيز على الجوانب الإيجابية في شخصية الطفل واستخدام أساليب التعزيز، كما ان الاهم هو عمل ورشات عمل للمعلمين، يتم من خلالها مناقشة الخصائص الانمائية لكل مرحلة عمرية، والمطالب النفسية والاجتماعية لكل مرحلة، ولهذا لابد من أن تبادر الجهات المسؤولة المتمثلة في منظمات التنمية الاجتماعية والأسرة والمؤسسات التعليمية والتضامن إلى اقتراح تشريعات تجرم العنف في المدارس.
عنف مدرسي معاكس!
لم يعد العنف المدرسي في العراق احادي الجانب، وهو العنف التقليدي، أي تعامل المدرس بخشونة وأحيانا ضرب تلاميذه، بل أصبح عنفًا عكسيًا أيضا، وهو اعتداء التلميذ على التربويين، سواء كان ذلك في المدارس الابتدائية او الثانوية، وربما يحصل في الجامعات والمعاهد، ليفصح عن ثقافة عنفية جديدة تتجسد في اشكال من العنف المادي والألفاظ البذيئة بين التلاميذ وبين المعلمات وفيما بينهم ايضا، وتبادل الكلمات النابية والسلوكيات القاسية، لتنذر بعواقب وخيمة في الاجواء التربوية التي يراد لها ان تكون صحية وخالية من اثار العنف الذي ترك بصماته في الكثير من زوايا المجتمع.
يقول أحد مدراء المدارس:"أحدث الوقائع في هذا الصدد، اصابة معلم بإطلاق نار من تلميذ اثناء تأدية الامتحانات، حيث نقل المعلم الى المستشفى، فيما تم القبض على التلميذ لاتخاذ الاجراءات الازمة".
وأضاف:"الواقع التعليمي يحتاج الى اعادة تقييم، والتأسيس لمناهج اكثر قدرة على بث روح السلام والسلوك السلمي كبديل للعنف المستحكم في العلاقة بين التلميذ والمعلم، مشيرا إلى أنّ حالات العنف في تزايد يصاحبه عدم اهتمام من قبل التلاميذ بالدراسة، وممارستهم لسلوكيات شاذة مثل التدخين وتناول المخدرات. وبحسب احصاءات فان عدد حالات قتل المدرسين والمعلمين من قبل طلابهم أخذ يتزايد، وأرى أن هذه الظاهرة هي جزء من ثقافة عنفية تجتاح المجتمع العراقي، زرعتها الحروب الخارجية والداخلية في العراق، وهي انعكاس ايضا للعنف الاسري ايضا. وأعتقد أنّ الخوف هو الذي يحكم العلاقة بين المعلم والتلميذ في العراق منذ زمن طويل، لكنه كان خوفا من جانب واحد، وهو خوف التلميذ من المعلم، لكنه كان "خشية مشروعة" وهو اقرب الى الاحترام منه الى الخوف، اما اليوم فان المعلم او المدرس اصبح يخشي التلاميذ، بل ويخشى اسرهم التي غالبا ما تتدخل لمصلحة التلميذ اذا ما حصل خلاف بينه وبين المعلم. ويبدو أن تفاقم ظاهرة العنف يعود الى غياب دور الباحث الاجتماعي في المدارس. وشخصيا أدعو إلى أنّ يكون في كل مدرسة باحثان اجتماعيان على الاقل بغية تعزيز العلاقة الصحية بين اطراف العملية التدريسية. "إنّ هذه المشاهد تعكس تسيد العنف في سلوك الإنسان العراقيّ. لقد صار العنف بالنّسبة إليه الطريق الأسهل والأنجح لحلّ المشاكل. يتدرّج العنف من اللفظيّ إلى الضرب باليدّ، ثمّ العصا، وصولاً إلى الأسلحة بكلّ أشكالها، والقتل والتمثيل بالجثث، ونزاع العشائر المسلّح الذي بات ظاهرة تنتشر في كلّ البلاد".
وأضاف:"أعتقد مبدأ العصا لمن عصى، الذي لطالما سمعناه في صفوف الدراسة، وكان يرعبنا منظر العصا وهي تنقل من يد إلى يد أخرى في فناء المدرسة، ولكن ما يحيرني هو أن العصا في بادئ الأمر انتقلت من يد المعلم إلى يد الإدارة المدرسية بين الوكيل والمدير والمرشد الطلابي، وأصبح المعلم فقط هو الممنوع من الضرب، ولم تلبث مدة طويلة لكي تنزع العصا حتى من بين أيادي موظفي الإدارة المدرسية، ليصبح العقاب بالعصا نسياً منسياً، وبدأت عبارة العصا لمن عصى تزول وتنمحي تدريجياً، وحضرت بالنيابة عنها عبارات أخرى كعبارة من أمن العقوبة أساء الأدب. ولكن المفاجأة الكبرى التي لم تكن في الحسبان هي أن العصا عادت، ولكن هذه المرة عادت في يد الطالب! فلقد كثرت في الآونة الأخيرة قصص ضرب المعلمين، ليس من الطلاب فقط، بل حتى من أولياء الأمور.
الطالب يهدد المدرس ويضربه أحيانا، ويأتي ولي الأمر ليكمل الناقص، الأدهى والأمر، من ذلك أنك حين تكتب عبارة تهديد معلم في متصفح البحث "قوقل" تجد أن بعض الطلاب يصورون منظر الرصاصة وهي واقفة بين أصابعهم، وهم يشيرون نحو المعلم. هل هنالك أكبر وأكثر من هذا التهديد، قديماً كان الطالب يتغيب عن المدرسة إذا لم يقم بحل الواجب خوفاً من عقاب المعلم، واليوم يحصل العكس أحيانا، فمن يتغيب عن المدرسة هو المعلم المُهَدَد خوفاً من أن يتعرض للضرب والقتل على يد الطلاب وأولياء أمورهم"!
وفي النهاية.. لا لسلاح العنف
في إطار التشريعات الجنائية، تصدى فقهاء القانون الجنائي لتعريف العنف في إطار نظريتين تتنازعان مفهوم العنف: النظرية التقليدية، حيث تأخذ بالقوى المادية بالتركيز على ممارسة القوة الجسدية. أما النظرية الحديثة فتأخذ بالضغط والإكراه الإرادي، دون تركيز على الوسيلة، وإنما على نتيجة متمثلة في إجبار إرادة غيره بوسائل معينة على إتيان تصرف معين.
وعلى ضوء ما سبق عرف البعض العنف بأنه المسُّ بسلامة الجسم ولو لم يكن جسيماً بل كان صورة تعدٍّ وإيذاء.
كما يعرفه آخر بأنه: تجسيد الطاقة أو القوى المادية في الإضرار المادي بشخص آخر.
ويذهب آخر الى أنه الجرائم التي تستخدم فيها أي وسيلة تتسم بالشدة للاعتداء على شخص الإنسان أو عِرضه، ولا يتحقق العنف في جرائم الاعتداء على الأموال إلا باستخدام الوسائل المادية.
وعليه، فإن تعريف العنف في التشريعات الجنائية: هو كل مساس بسلامة جسم المجني عليه، من شأنه إلحاق الإيذاء به والتعدي عليه.
كما يعرف العنف من منظور اجتماعي آخر بأنه: الإيذاء باليد أو باللسان، أو بالفعل أو بكلمة، في الحقل التصادمي مع الآخر، ولا فرق في ذلك بين أن يكون فعل العنف والإيذاء على المستوى الفردي أو المستوى الجماعي. فلا يخرج في كلا الحالتين من ممارسة الإيذاء؛ سواء باللسان أو اليد. فالعنف سلوك إيذائي، قوامه إنكار الآخر كقيمة متماثلة للأنا أو للنَّحن، كقيمة تستحق الحياة والاحترام، ومن مرتكزه استبعاد الآخر عن حلبة التغالب، إما بخفضه إلى تابع، وإما بنفيه خارج الساحة "إخراجه من اللعبة"، وإما بتصفيته معنوياً أو جسدياً. إذن معنى العنف الأساسي في المنظور الاجتماعي والسوسيولوجي هو عدم الاعتراف بالآخر، رفضه وتحويله إلى الشيء "المناسب" للحاجة العنفية، إذا جاز الكلام. عدم الاعتراف لا يعني عدم المعرفة، بل يعني معرفة معينة "مقولبة" هنا الفاعل العنفي يراقب المقابل، يتصوره بالطريقة المناسبة لرسم صورته "الضحية" وللتحكم بصيرورته.
وعليه، فإن العنف هو واقعة اجتماعية تاريخية، ينتجها الفاعل الفردي "المتسلط الأَنَوي"، مثلما ينتجها الفاعل الجمعي "المتسلط الجمعي" في سباق التصارع على الامتلاك الأَنَوي أو الجمعي للآخرين، وفي غياب أي انتظام علائقي من النوع الديمقراطي أو المساواتي العضوي.
لذلك تعرف موسوعة الجريمة والعدالة العنف بأنه: يشير إلى كل صور السلوك؛ سواء كانت فعلية أو تهديدية التي ينتج عنها -أو قد ينتج عنها- تدمير وتحطيم للممتلكات أو إلحاق الأذى أو الموت بالفرد أو الجماعة والمجتمع.
والعنف بوصفه ظاهرة فردية أو مجتمعية، هو تعبير عن خلل ما في سياق صانعها، إنْ على المستوى النفسي أو الاقتصادي أو الاجتماعي أو السياسي. دفعه هذا السياق الذي يعانيه نحو استخدام العنف، متوهماً أن خيار العنف والقوة سيوفر له كل متطلباته، أو محققاً له كل أهدافه. وفي حقيقة الأمر إن استخدام العنف والقوة في العلاقات الاجتماعية، تحت أي مسوغ كان، يعد انتهاكاً صريحاً للنواميس الاجتماعية، التي حددت نمط التعاطي والتعامل في العلاقات الاجتماعية؛ لأن العنف على المستوى المجتمعي يعني أن يغتصب "صانع العنف" أدوات صراعية وصدامية، من أجل أن يتمكن "كما يرى" من البوح برأيه، والتعبير عن مكنون خاطره وفكره... لهذا فإننا نرى العنف من الأسلحة الخطيرة، التي تقوّض الكثير من مكاسب المجتمع، وإنجازات الأمة والوطن.