فضاءات

رحلتْ أم واثق، لتلتحق برفيقها الشهيد / صلاح العوفي

في مجلس التأبين للفقيدة السيدة ماجدة حمد الشيخ زهرون، جرى أستذكار لاولئك الشهداء الأماجد وللفقيدة وما تحملته من آلام ومصاعب، فعائلة الشهيد الشيوعي إلتفات ثجيل حقي من تلك العوائل المناضلة المضحية، فكانت الكلمات التي قيلت بحقها في جلسة التأبين، ما هي إلا رد جزء بسيط من ذلك الدين لهذه العائلة.
لقد خطف النظام الدكتاتوري المقبور زوج الفقيدة وتركها تعيل طفلين (واثق وداليا)، فأحسنت التربية والوفاء.
وكانت كلمة السيد صلاح العوفي مؤثرة ووجدناها تعكس حقيقة العطاء والتضحية وحجم المعاناة لهذه العائلة المجيدة، ومما جاء فيها:
وُلدتْ فقيدتُنا الراحلة أم واثق (ماجدة حمد الشيخ زهرون)، في قلعة صالح عام 1944 في وسط عائلة وطنية طيِّبة مناضلة.
وفي عامها العاشر إنتقلت ماجد ، وهي طالبةٌ في المرحلة الابتدائية مع عائلتها إلى بغداد .. وفي بغداد أكملتْ دراستَها الابتدائيةِ والثانوية والجامعية، لتحصل على شهادة البكالوريوس في العلوم البايولوجية .. فإمتهنت التعليم الثانوي كمدرِّسة لعلم الأحياء ولمدة ثلاثين عاما ً، وكانت من المدرِّسات المتميِّزات، علما ً وأخلاقا ً وإخلاصا ً، حتى أنها حصَلت على لقب (المدرس الأول).
الفقيدة ماجدة، الأستاذة القديرة والمربية الفاضلة والوطنية الصادقة، تميَّزت بقوة شخصيتها، فكانت بالإضافة إلى العائلة، تُرشد وتوجِّه أخواتها الأصغر نحو المزيد من التعليم، وتؤكد لـَـهُنَّ دوماً ( إنَّ العلمَ والمعرفة، هما أمضى سلاح بيد المرأة ، لتحلَ موقعها اللائق في المجتمع وتحصل على حقوقها) .. وقد تمسكت بهذا المبدأ، خلال قيادتها ورعايتها لوَلدَيها، بعد إستشهاد زوجها، فكانت الأم والأب في آن واحد. أما عن طيبتِها وحبِها للناس، فيعجزُ اللسانُ عن وصفها .
وهي إمرأةٌ أبيَّة، لها من عزة النفس، أكثر من سنتين، وهي تصارع ذلك المرض الخبيث، بمعنوياتٍ عاليةٍ وبإرادة صُلبة، كاتمةً آلامَها، كي لا ينهارَ مَنْ هُم حولها.
أما عن إلتفات ثجيل، أبن العائلة المناضلة الكادحة الكريمة، التي أنجبت أربعة أبطال، إلتفات وسعدي ورعد ورشيد ، فهو من مواليد 1946 لواء الناصرية ، وقد أنضم لصفوف الحزب الشيوعي، وهو بعمرِ خمسةَ عشرَ عاماً، وبعد إنقلاب شباط الأسود عام 1963، نشط نشاطاً كبيراً، إذ كان يحرر البيانات بإسم اللجنة المحلية في الناصرية ــ التي جمَّدت نشاطها ــ ويقوم بلصقها على الجدران أو ينثرها في الأزقة بين البيوت، ليشدَّ من أزر الجماهير ويرفع من معنوياتها. ولكن بعد شهرين من الانقلاب الدموي أُلقيَ القبض عليه، وحُكم فوراً بأربع سنوات سجن، قضّاها بين سجنَيْ (الحلة ونقرة السلمان) ، وهو لم يُكمل الثامنةَ عشر من عمره، حتى أنَّ ( إذاعة صوت الشعب العراقي السرِّية ) آنذاك ، كانت تُصدر يومياً عشرات أو مئات النداءات ، ومن بينها ، نداء خاص بإلتفات ، تحت عنوان ( إطلقوا سراح أصغر مناضل شيوعي) ..
وفي عام 1964، وبطلب من (أم إلتفات)، توسط أحد المقرَّبين من إلتفات لدى أحد المسؤولين في حكومة 8 شباط 1963، لإطلاق سراحهِ، فكان شرط هذا المسؤول، أن يوقِّع إلتفات على خمسِ كلمات هي (أنا برئ من الحزب الشيوعي العراقي !!)، وكان رد المناضل إلتفات، أن يكمل محكوميته، أو حتى أن يموت، ولن يخون مبادئه ويذلَّ نفسهُ ... وهكذا أكمل محكوميته وخرج مرفوع الرأس.
أما عن خصاله الأخرى، فكان مثالاً للشيوعي الحقيقي، صادقا أمينا، دمث الأخلاق، يدخل إلى القلب من اللحظة الأولى، أحبَّ الناس فأحبُّوه، يحيِّيك بإبتسامته الجميلة قبل أن يصافحك، وكان عصامياً، يعمل في النهار لإعالة عائلته الكبيرة ويدرس مساءً حتى أكمل دراسته الجامعية ليحصل على شهادة البكالوريوس في اللغة الانكليزية، ليعمل بوظيفة مترجم في إحدى الشركات الصناعية الحكومية، لفترة قصيرة، ليتركها بسبب المضايقات السياسية .
ولتشابه الصفات الحميدة وتطابق الآراء والأفكار، إختار إلتفات ماجدة، وإختارت ماجدة إلتفات، ليتزوجا في عام 1976، فرُزِقا بولدين وبينما هما في قمةِ سعادتِهما الزوجية وفرَحِهِما بولديهِما، فإذا بشباطٍ أسوَدٍ جديد ، يقتحمُ حياةَ وسعادةَ هذه العائلة الفتيَّة، حيث إقتحمت زمرة من القوات الأمنية المجرمة، دار أخيهم المناضل رعد ثجيل في حي العامل ببغداد، في الخامس من شباط 1981، لتُلقي القبضَ على الأخوةِ الثلاثة، إلتفات ورعد ورشيد ثجيل، وزوجِ شقيقتِهم جبار نعيم، وقبلَهم بساعات أُلقي القبض على إبنِ أختِهم سعدون لعواس .. وبعد سنتين ونصف، من التعذيب الجسدي والنفسي في سجون النظام الدكتاتوري البائد، قُدِّموا إلى محاكم النظام، تلك المحاكم التي قُضاتُها جلادون، ومحاموها رجالُ أمن، وحاشيتُها مجموعة من الأذلاء الذين يحررون الإعترافات الكاذبة والوثائق المزوَّرة بأسماء الأبرياء، لتُصدر تلك المحاكم أحكاما ً بإعدامِهم جميعا ، لا لجريمةٍ إقترفوها، إنما لإيمانهم بفكرٍ تقدمي وإنتمائهم لحزب وطني .. حزب لا يريد للعراق، إلاّ الخير والسلام والاستقرار والوئام .. حزب ناضل وقدَّم قوافل من الشهداء كي لا يصل العراق إلى ما وصل إليه اليوم .. فتسابق جلاّدوا الشعب لتنفيذ جريمتهم، بالمناضلين، إلتفات ورعد ورشيد وجبار وسعدون ، في الأيام (23 و 24 و 26 من شهر تموز عام 1983).. فترَمَّلت النساء وتيَتَمَ الأطفال، ولكن قوة وشجاعة الأمهات زوجات الشهداء (ماجدة حمد أم داليا وواثق عقيلة الشهيد إلتفات ثجيل، ووفاء منهي غيلان أم مقدام عقيلة الشهيد رعد ثجيل، وأحلام ثجيل أم فرات عقيلة الشهيد جبار نعيم)، جَعلتْ منهنَّ آباءً وأُمهات في آن واحد، ليُبدعنَ في صمودِهِنَّ وصبرِهِنَّ، من أجل أن يُثبتنَ للطغاة، أنَّ أولادَ الشهداء سيُحْيونَ ذكرى آبائهم، بصبرهم وأخلاقهم وتفوقهم العلمي، ليكونوا خيرَ خلفٍ لخيرِ سلف، وكانوا كذلك. فها هم اليوم، أولاد الشهداء يقفوا مرفوعي الرأس بشهدائهم وبتفوقهم العلمي ... فها هي داليا إلتفات ماجستير في الكيمياء وفي طريقها إلى الدكتوراه .. وها هو واثق إلتفات في كلية العلوم قسم الرياضيات. وها هو مقدام رعد الصيدلاني .. وها هو فرات جبار إختصاصي التحليلات المرضيَّة.. فهنيئا ً لكم يا أولاد الشهداء، وإطمئنوا أنَّ آباءَكم الشهداء، ومعهم عزيزتكم (أم واثق) كلُّهم أحياءٌ خالدون، بكُم وبالطيِّبين الشرفاء من أبناء شعبكم.
وختاماً نقول .. أدخلي بسلامٍ إلى عالم الأنوار، يا أم واثق، أيَّتها المَرجانةُ .. أيتها اللؤلؤةُ الطاهرةُ.. لتلتحقي بشُهدائِك الأبرار، وهم في جنّات المجد والخلود.