فضاءات

الثـــــــــــرم .. فنـــــون !/ عبد الجبار السعودي

كنت أقف عصر أحد الأيام في مطبخ البيت، وقد فتحت النافذة، لكي أعمل طبقا من الزلاطة، وسط أجواء الحرارة غير المسبوقة في مثل هذه الأيام، فكانت المقادير منوعة من( الطماطة بلونها القاني الأحمر الى الخيار والبروكلي، الى الجزر، والثوم الصيني، وقطعة الزنجبيل وحبات الزيتون والليمون الحامض وانتهاءً بزيت الزيتون والملــح).
كنتُ حينها مهموماً، تشرد وتهربُ بي الأفكار عند المحن التي تطوقني، ومنها انتهاء الراتب قبل عشرة أيام من حلول (راس الشهر) الى المحن التي تطوق عالمنا هذه الأيام، فكانت رقبتي و(صندوق دماغي) ينوءان في تعب وإنهاك، رغم حلاوة الألوان التي أمام عيوني، فشرعتُ في تقطيع الطماطم الطازجة أولاً ثم البروكلي، وثارماً رأس الجزر، مروراً بتقطيع الخيار، مدندنـــاً دون اختيار مسبق لأغنية (يلجمالك سومري) للمطرب المعروف فاضل عواد.
في لحظات الطقوس اليومية هذه، التي اعتدت عليها، جلب انتباهي طرقات على زجاج النافذة الواسعة المطلة على الممر الخارجي، فإذا بإحدى السيدات من الجيران، المحاذين للبيت تسأل، وهي تتابعني من خلال النافذة دون أن أنتبه:
- هلو .. شلونك ، جاي تطبخ ؟ جاي أشوفك تعمل زلاطة لذيذة .. !
- أهلاً بك سيدتي .. إي نعم لذيذة بكل تأكيد .. هل تعملين مثلها للعائلة؟ أجابت :
- مثل هاي اللي جاي أشوفها الآن لا، صعبة عليّ .. أنت جاي تعمل فن وشي أكيد عندك خبرة بالتقطيع و (الثـرم) .. ليش ما إتقدم على كورس للطبخ؟
- ماذا قلتِ؟ الثــــرم فن؟!
- إي نعم ..هذا فن من الفنون.. مو كل واحد گادر عليه! بس ليش كل هذا التعب. أكو زلاطات جاهزة بالمحلات.. أرخص و أسهل لك من هذا التعب. الى هنا توقفت (سيدة الجيران) عن حديثها بعد أن سَمِعتْ من ناداها، و تمنت لي غداءً لذيذاً، وأمسية طيبة، ثم ودعتني بابتسامة و إشارة من يدها.
أخذتني الأفكار الى ما قالته تلك المرأة عن (الثــــرم) و عن الزلاطات الجاهزة، ثم الى ما هو أكثر أهميــــة في حديثها السريع العابر، الى اعتبار أن الثــــــرم نوع من الفنــون!
أنهيتُ عملية الثرم والتقطيع الفنية تلك، وأضفت بعضاً من الزيت و خلطت محتوى الطبق، و تذوقت قليلاً ما صنعته اليدان، فوجدته بحاجة الى قليلٍ من الملح و خصوصاً أن الأجواء الحارة الآن تتطلب ذلك.
تناولت الطبق بنهم و تلذذ، مسترجعاً فنون الثــرم التي تعودنا عليها طوال سنوات دون أن ينتبه الينا أحد أو يقول: عاشت إيديكم، هذا فــن!
بمعادلة حسابية سريعة جمعت فيها عدد المرات التي (ثرمتُ) فيها طوال سنوات حياتي الشقية، فوجدت نفسي و بفخر بروفيسوراً في الثرم، حاصلاً على أعلى درجات التقييم! ثم تذكرت كم من الناس كانت تثـرم ولا زالت للآن دون أن تدري أنها تمارس فنــــاً راقيــــاً ! تذكرت أيضاً جانبا آخر ومثيرا و بالغ الأهمية (كيف أن البعض يثــرم بروسنــــا و روس المساكين دون أن ينتج طبق زلاطة واحد)!!
تذكرت كلمات هذه السيدة عن الزلاطات الجاهزة المتوفرة في الأسواق و علاقتها بالحال السياسية الساخنة، فوجدتُ ترابطاً واضحاً وقوياً لا نقيض ولا بديل له، تعززه الدلائل، فالطبخات الجاهزة والسريعة هي المفضلة الآن وحسب المراد، بعد أن اشتد التعب بالأيادي التي تـثرم دون أن تدري من أن (ناتج الثرم) متوفر في الأسواق وبكل الأنواع وحسب الطلب !
أنهيت تناول الزلاطة، وترحمتُ على من زرع الطماطة والخيار والزيتون و الثوم وبقية الخضروات المثرومة، و أعلنت عن الشروع بأغنية جديدة، اخترتها بعناية هذه المرّة، وأنا أقف ثانية لكي أقلــي قطعتين من السمك البحري، فاتحاً شباك المطبخ هذه المرّة على مصراعيه، عسى ولعل هناك من سيأتي و يطــلّ برأسه ثانية من خلال النافذة، ويمنحنى تقييماً آخراً أعلى مما حصلت عليه في عالم الثرم و فنونــــه!