فضاءات

عدنان عبدالله البراك / باسم عبدالحميد حمودي

لا يتذكر الراوي متى حدثت الواقعة باليوم والشهر ولكنها لم تكن تبتعد عن يوم من ايام سنة 1953.
يومها كان نوري باشا السعيد اقوى شخصية في العراق، وكان رئيس الوزراء المزمن لسنوات وحتى اذا غادر الوزارة فهو رجل الدولة الاول.
كان الشاب عدنان عبدالله البراك طالب الكلية الطبية الملكية العراقية شابا لامعا واحد سجناء نقرة السلمان، فهو محكوم بالسجن لمدة عشر سنوات منذ عام 1948 لانه كان مسؤولا عن تنظيم الخلايا الشيوعية في المعاهد والكليات.. عندما اعتقل وزملاءه نتيجة وشاية مالك سيف وتلك حكاية اخرى كما يقولون!
عاف عدنان حضن امه الدافئ وحب اخويه وشقيقاته الصغار وكليته الجميلة البهية التي ستؤهله كطبيب ودخل في معترك السياسة متقدما في صفوف التنظيم السري الذي اختاره عقله. ليتقدم الصفوف قائدا صغيرا لمجموعة من طلبة كليات العراق ومعاهده العليا، وما ان القي القبض عليه وعلى سواه واحيل الى المجلس العرفي العسكري الاول برئاسة العقيد عبدالله النعساني حتى وجدت هذه المحكمة جرمه كبيرا ضد الملك والوطن فحكمت عليه بالسجن الشديد عشر سنوات.. مع سواه من الرجال.
اقتيد عدنان الى سجن نقرة السلمان الرهيب فلم يشك ولم يهتم بالرغم من ضعف بدنه والآلام التي تنتابه، وكان في السجن من عسس ورقباء يرقبون سلوكه الجاد واحترام السجناء له وامراض بدنه فكتبوا لمراجعهم العليا موصين به ووصل ما كتبوا الى نوري باشا.
كان الباشا السعيد يريد اختراق ذلك السجن فارسل على الاستاذ عبد الحميد (خال عدنان)، وفي الموعد المحدد ذهب الخال وهو مدير لمدرسة كبرى في الكرخ الى رئاسة الوزراء في القشلة، ووجد الباشا بانظاره مرحبا. وبعد السلام والترحاب قال له (حميد افندي صديقك السيد عبدالوهاب مرجان اشاد بك وبعملك سابقا في الحلة، وهو يعرف أبا عدنان الذي عمل في الحلة ايضا) واراد نوري باشا الاستمرار في حديث كهذا فقاطعه الاستاذ عبد الحميد قائلا: (ماذا تأمرون يا باشا فأنا في سلك التعليم وانا استمع لكم لافهم سبب هذه الدعوة الكريمة).
وضع نوري باشا نظارته على المنضدة وقال (استاذ عبدالحميد.. ابن اختك عدنان شاب جيد وانا اتعهد بمستقبله اذا وقع على ورقة تقطع انتماءه بالمجموعة التي اضاع شبابه معها من دون جدوى.. هو الان في موقف التسفيرات ببغداد فقد جئنا به راجين ان تساعده على العودة الى كليته وسارسله في العام القادم الى بريطانيا ليكمل دراسته.. ماذا تقول؟) قال عبدالحميد للباشا كلاما عاما لم يتعهد به بشيء سوى المحاولة، هنا قام الباشا مودعا ليغادر الخال القشلة متعبا من التفكير بعد ان اتفق ومدير مكتب الباشا الذي لا يتذكر اسمه على الذهاب الى موقف ?لتسفيرات غدا في العاشرة.
عاد الخال الى داره مستدعيا ولديّ شقيقته الكبرى المحاميين محمود ومحمد العبطة، الاول من الوطني الديمقراطي والثاني من حزب الاستقلال وشاورهما في الامر، واتفق الاثنان (وقلما كانا يتفقان) على عدم جدوى المحاولة مع ابن خالتهما عدنان ولكن الخال حسم الامر بالقول (انا معكما ولكني ساحاول والله المعين).
في اليوم التالي كان الاستاذ عبدالحميد قبيل العاشرة في غرفة مدير سجن التسفيرات ومعه هدايا بسيطة لابن اخته الذي اقتادوه اليه فاعتنقه ودمعت عيناه حزنا عليه واجلسه الى جانبه على اريكة المكتب الوحيدة.
شربا الشاي معا وعدنان مستريب من هذه الزيارة، والخال لا يستطيع الحديث والمدير جالس.
فهم الرجل اصول اللعبة وهو يعرف اطرافا منها- فخرج من الغرفة واقفلها عليهما، استجمع الخال شجاعته التي كادت تتداعى لفرط هدوء ابن شقيقته ونكاته الغريبة وسؤاله عن اقربائه، وتكلم الخال شارحا ما دار بينه وبين الباشا.
انصت عدنان الى خاله الذي يحبه ثم رفع رأسه معاتباً بنظرة اثلجت وجه عبد الحميد وقال وهو يقبل خاله) خالي انت لا تقبل بعد خمس سنوات من السجن ان اخون ربعي فقد اخترت طريقي وحسبك حبي لك وحبك لي) بكى الاستاذ عبدالحميد وهو يعانق عدنان ويغمغم (كنت مضطرا الى هذه الزيارة.. سود الله وجه نوري) وهنا ابتسم عدنان قائلا: (وانا معك خالي في هذا).
هنا دخل مدير التسفيرات الى الغرفة ودخل الشرطة ليقتادوا عدنان الى الموقف ثم الى السلمان بعد هذا.
قبل ان يستكمل عدنان محكوميته بشهر قامت احداث 14 تموز 1958 واطلق سراحه وقتل الباشا والاسرة المالكة وعمل عدنان في الصحافة وكان يتمتع بمكانة مرموقة بين الصحفيين من مختلف الاتجاهات حتى قامت احداث شباط 1963 واعتقل مرة اخرى مع الالاف ولكنهم لم يسجنوه هذه المرة بل وضعوه مع عشرات غيره ثم أهالوا عليهم التراب.. وهم احياء.
ظل عدنان عبدالله البراك حيا في النفوس الخيرة وما زال عطره يفوح وأدبه يسمو وذكراه تتجدد رحمه الله.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
جريدة "الزمان" 20/11/2014