فضاءات

رحلة الى الشواهد / عبد جعفر

فأجاني صديقي الدكتور ملك محمد جودة الذي التقيت به في لندن بعد فراق دام اكثر من 35 عاما بسؤاله: أصحيح أن ضريح كارل ماركس هنا في لندن؟ وحين أجبته بنعم، راح يلومني لأني لم أخبره من قبل. سررت بداخلي لهذا اللوم، لأني وجدت شيئا جديدا أطلعه عليه في مدينة الضباب، ولكني اكتئبت جراء إصراره على الذهاب في ذلك اليوم الممطر، وأستغربت كيف يترك لندن وشوارعها وجمال الحركة فيها كي يقودني الى الضريح، وكلما حاولت أن أغير وجهته كان يصر، وصديقي الدكتور ملك، عنيد أعرفه حين يصر على شيء يرغب فيه. استسلمت للأمر واستعنا بصديقنا المشترك عبد الرحمن مفتن (أبو زينة) كي يقلنا بسيارته الى مقبرة هايغيت شمال لندن حيث حط ماركس رحاله هناك.
كانت المقبرة شواهد وأشجار متشابكة وسكون يكسره طائر مغرد يلتجأ الى عشه، وريح تعبث بالإغصان وتذر الاوراق المتساقطة مع رذاذ المطر بعنف على العشب الأخضر. وتمتد بين الشواهد ألسنة اسفلتية تقودك الى إتجاهات مختلفة، وكلما مضينا، تطالعنا شواهد بنيت بالحجر الأسود وأخرى بالطابوق الأحمر وزينت بعضها بالكتابات والرسوم أو النصب أو العلامات الدينية. المشهد يدلل على تعايش الاجيال بسلام اخاذ أذ يتساوى فيه أعمار الاجداد والأباء والأحفاد.
في مدخل هذه المقبرة يوجد شاهد ضخم يرتفع حوله نصب برأس كبير لكارل ماركس وتحت مجموعة من الأشجار والشموع وتتجه نظرات ماركس بعيدا وربما الى شاهد الشاعر أليوت الذي يقابله في الجهة الأخرى.
 ما الذي جاء به من المانيا كي يموت هنا؟
كان صديقي ملك يسأل ولكن ليس بحثا عن الجواب، فهو يعرف هذا المنفى مثلنا.
قلت له:
- هناك أيضا شواهد رجال عراقيون وعراقيات!
أستفزت جملتي ملك كأني وخزته بشئ حاد.. وطلب مني أن أريه تلك الشواهد حالا.
لم نبتعد كثيرا، هنا شاهد المناضل سعد علي، الشاعر بلند الحيدري، الدكتورة صبيحة الخطيب، المناضل منير جميل، والمغترب سالم الدملوجي وقادة الحزب الشيوعي العراقي الدكتور رحيم عجينة، وثابت حبيب العاني، وصالح مهدي دكله.
وكلما اردنا أن نخرج من المقبرة يتشبث ملك في معرفة المزيد عن الشواهد العراقية ، فهل يريد أن يجد جوابا لأسئلته، لماذا أصبح قدر العراقيين المنفى والمقابر في جهات الارض الأربع بعيدا عن وطنهم.
لم تفلح سوى شدة المطر في دفعنا الى الخارج، ولم نكن نعرف ونحن نودع الأعزاء هل نعدهم بالمجيء ثانية زائرين نحمل باقات الورد أم محمولين مثلهم كما فعلت المناضلة كلير مشعل (أم حقي) مؤخرا. الخواطر والدموع تتسابق مع المطر وهي تحجب عنا الرؤية في سيارة (ابو زينة) التي تقلنا بعيدا الى المدينة.